الطاقة المستدامة… هل ستكون ركيزة مستقبل مراكز البيانات في الشرق الأوسط؟

مع تسارع التحوّل الرقمي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تتزايد الضغوط على مراكز البيانات التي تُعدّ البنية التحتية الأساسية لهذا التحول. ويزيد تنامي تقنيات، مثل الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء و«البلوك تشين» والأصول الرقمية، الطلب على الطاقة اللازمة لتشغيل هذه المراكز في ارتفاع مستمر. لكن في منطقة غنية بمصادر الطاقة غير المستغلة، تظهر فرصة فريدة تتمثل في تشغيل الاقتصاد الرقمي بطريقة مستدامة.
يؤكد محمد المصري، العضو المنتدب لشركة «هودلر إنفستمنتسي» (Hodler Investments) في مقابلة مع «الشرق الأوسط» أن الطاقة المستدامة لم تعد خياراً بل ضرورة، ومن دونها قد يصبح هذا القطاع مصدراً رئيسياً للانبعاثات رغم كونه العمود الفقري للاقتصاد الرقمي.
معضلة الطاقة في مراكز البيانات
تشهد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نمواً رقمياً غير مسبوق، تقوده تقنيات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المالية (فينتك) والمدن الذكية والأصول الرقمية. ونتيجة ذلك، يزداد الطلب على مراكز البيانات، سواء الضخمة أو الطرفية (Edge Data Centers)؛ حيث يستهلك كل مركز ما بين عشرات إلى مئات الميغاواط.
وفي مناطق الخليج ذات الحرارة العالية يُمكن أن يشكل التبريد وحده 40-50 في المائة من استهلاك الطاقة حسب الدراسات. ومع هذا الطلب المتسارع، تبرز ضرورة مزدوجة، وهي توسيع البنية الرقمية بسرعة لكن بطريقة تراعي كفاءة الطاقة.
حلول مبتكرة لملامح جديدة للطاقة
وفقاً لمحمد المصري، لا تُواجه المنطقة تحديات الاستدامة فحسب، بل تقود أيضاً اتجاهات جديدة في هذا المجال. ويشير إلى 3 ابتكارات رئيسية وهي نماذج «خلف السياج» للطاقة؛ حيث يتم استخدام مصادر طاقة مهملة أو غير مستغلة، مثل الغاز المهدور والطاقة الشمسية لتغذية مراكز البيانات مباشرة دون الاعتماد على الشبكات التقليدية. ثانياً أنظمة تبريد متقدمة، مثل التبريد الهجين باستخدام الماء أو الغمر، وهي تقنيات تُقلل بشكل كبير من الطاقة المستخدمة في التبريد، خصوصاً في البيئات الحارة. والابتكار الثالث هو «البلوك تشين» (Blockchain) لمراقبة الطاقة؛ حيث يُستخدم لتتبع استهلاك الطاقة وتداول الاعتمادات الكربونية، ما يُضيف طبقة من الشفافية والمرونة في إدارة الطاقة.
من الهدر إلى الاستثمار
من بين أكثر الابتكارات تميزاً هو استخدام الغاز المشتعل الناتج الثانوي، الذي غالباً ما يُهدر أو يُحرق في مواقع النفط والغاز بوصفه مصدر طاقة لتشغيل مراكز البيانات المتنقلة.
ويوضح المصري أن هذا النموذج يحوّل ما كان يُعد عبئاً بيئياً إلى أصل اقتصادي. ويضيف أنه يُقلل الانبعاثات ويُعزز الكفاءة ويُفكك مركزية الحوسبة عبر تقريبها من مصادر الطاقة.
الكفاءة والانبعاثات والتكاليف
لقد أصبحت الفوائد العملية للطاقة المستدامة واضحة بالأرقام؛ حيث إن فاعلية استخدام الطاقة (PUE) تحسنت بشكل ملحوظ، وغالباً ما تنخفض إلى أقل من 1.2 في المواقع المستدامة.
ويشرح محمد المصري أيضاً أن الانبعاثات الكربونية انخفضت بنسبة 40-70 في المائة مقارنة بالمراكز المعتمدة على الشبكة. كما أضحت التكاليف التشغيلية أقل بفضل انخفاض تكاليف التبريد وتوفير الطاقة محلياً، لكن أين يكمن الأثر الأعمق في السيادة الرقمية والطاقة؟
يجيب محمد المصري خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» عن ذلك قائلاً: «عندما تُستهلك الطاقة في مكان إنتاجها نفسه، لا نعود بحاجة لنقلها إلى مسافات بعيدة، وهذا يعيد العلاقة بين الموارد والمجتمعات المحلية، ويمنح الفرص للمناطق الطرفية، ويخلق ثروة في كل واط».
التقنيات الحديثة تُغيّر قواعد اللعبة
لم تعد التقنيات الحديثة تستهلك الطاقة فحسب، بل أصبحت تسهم أيضاً في إدارتها بكفاءة. فأنظمة الذكاء الاصطناعي باتت قادرة على تحسين عمليات التبريد وتوزيع الكهرباء في الوقت الفعلي، في حين تُسهِم المستشعرات الذكية في دعم الصيانة التنبؤية والحد من الأعطال قبل وقوعها. وتُستخدم «البلوك تشين» في تداول الطاقة واعتمادات الكربون.
يقول محمد المصري إن «التقنيات الحديثة جعلت استراتيجيات الطاقة أكثر استباقية وذكاءً». ويتوقع المصري أن تشمل الموجة القادمة من الابتكار دمج الشبكة الصغيرة (Microgrid)، أي الجمع بين الطاقة الشمسية والبطاريات والغاز، وكذلك تعميم التبريد بالغمر في بيئات الحوسبة الكثيفة.
وفيما لا تزال الأطر التنظيمية في تطور، فإن دولاً مثل السعودية والإمارات ومصر تُظهر دعماً متزايداً للبنية التحتية المستدامة.
ويحذر المصري من أن «التنظيم يمكن أن يفتح الباب أو يعوق التقدم»، وأن «سياسات شفافة وطموحة ضرورية لبناء اقتصاد طاقة رقمي ذي سيادة».
نصائح للمشغلين
وينصح محمد المصري أصحاب مراكز البيانات في المنطقة بالبدء بفهم استهلاكك للطاقة، ثم تصميم الاستراتيجية محلياً. ويتابع: «استقرّ بالقرب من مصادر الطاقة، وادمج بين مصادر متعددة، واستثمر مبكراً في تقنيات التبريد الفعّالة». ويُشدد على «أهمية اختيار شركاء يفهمون منظومة الطاقة والمنظومة الرقمية». ويقول: «الاستدامة ليست حلاً منفرداً، بل تحدٍّ شامل».
تعمل «هودلر» حالياً على مشروع نموذجي لمركز بيانات معياري يعمل بمزيج من الغاز المشتعل والطاقة الشمسية، ويستخدم التبريد بالغمر إضافة إلى منصة تداول كربوني في الموقع. وقد صُمم ليكون مرجعاً للمناطق الغنية بالطاقة في العالم.
ويرى المصري أن شركته «لا تبني مراكز بيانات فقط، بل تُعيد تعريف طريقة إنتاج واستهلاك وتسويق الطاقة لبناء اقتصاد رقمي أكثر مرونة وسيادة وشمولية». مع تصاعد طموحات المنطقة الرقمية، قد تكون استراتيجيات الطاقة المستدامة هي التي ستُحدد موقع الشرق الأوسط في خريطة التكنولوجيا العالمية.