كيف جعلت “الموجة الكورية” الشباب العربي تواقا لزيارة كوريا الجنوبية؟
تجاوزت الثقافة الكورية المعاصرة حدود الموسيقى الصاخبة والمشاهد السينمائية المؤثرة لتصبح قوة ناعمة حقيقية ساهمت في الترويج للسياحة الكورية بصورة غير مسبوقة وفي دعم اقتصادها الإبداعي.
هذا التأثير انتشر بقوة بين الشباب والمراهقين، وأثار فضولًا كبيرًا لاكتشاف كوريا، خاصة بين الشباب العربي، الذين يرون فيها أكثر من مجرد وجهة سياحية، بل حلما يعيشونه مع كل أغنية أو مسلسل كوري يشاهدونه.
في هذا المقال، نلقي الضوء على أبرز مظاهر الموجة الكورية في العالم العربي، وكيف تحولت كوريا إلى وجهة سياحية مفضلة وحلما لفئات من الشباب العرب.
1. الموجة الكورية: بوابة ثقافية وسياحية
“الهاليو”، أو الموجة الكورية، برزت كقوة ثقافية ناعمة اجتاحت العالم، ووصل تأثيرها للعالم العربي عبر الموسيقى، الدراما، والسينما الكورية. أصبحت الدراما الكورية (K-Dramas) والموسيقى الكورية (K-Pop) بمثابة جسر ثقافي ربط الشباب العرب بالثقافة الكورية، وأثار فضولهم لاستكشاف هذه الدولة عن قرب. أما الأعمال الشهيرة مثل الدراما العالمية “لعبة الحبار” (Squid Game) وأغاني فرق موسيقية كفرقة “بي تي إس” (BTS) فساهمت في تشكيل صورة إيجابية عن كوريا الجنوبية.
ما يميز هذه الأعمال أنها غالبًا ما تحمل قيمًا اجتماعية وإنسانية تثير التعاطف والاهتمام، مع مراعاة للأخلاقيات والتقاليد، وهو ما يلقى استحسانا واسعا لدى طيف من المجتمعات العربية، بعكس بعض الإنتاجات الغربية التي لا تضع قيودا ثقافية واضحة.
2. الموسيقى والدراما: شعبية متزايدة
أصبحت الموسيقى الكورية أحد أبرز عوامل الجذب الثقافي، حيث نظمت فرق مثل “بي تي إس” حفلات في دول عربية، مما ساهم في تعزيز الاهتمام بكوريا الجنوبية كوجهة سياحية.
فعلى سبيل المثال، استقطب حفل “بي تي إس” في الرياض عام 2019 أكثر من 60 ألف متفرج، ما يعكس الشعبية الجارفة لهذه الفرق في صفوف الشباب العرب.
هذا الشغف دفع الكثير من عشاق الثقافة الكورية إلى التخطيط لزيارة البلاد، لحضور الفعاليات الموسيقية لفرقهم المفضلة، واكتشاف الأماكن التي ظهرت في الفيديوهات الغنائية مثل أحياء “جانجنام” الراقية في سول، والتي سميت باسمها أشهر أغنية راب كورية وأول فيديو غنائي يتجاوز 5 مليار مشاهدة على يوتيوب وهي أغنية “جانجنام ستايل” (Gangnam Style).
بالتوازي، لعبت الدراما الكورية دورًا كبيرًا في تقديم كوريا كمقصد سياحي، فمسلسلات شهيرة مثل “وينتر سوناتا” (Winter Sonata) سلطت الضوء على مواقع خلابة مثل جزيرة “نامي سوم”، التي أصبحت وجهة مفضلة للزوار، وارتفع عدد زوارها من 250 ألفا إلى أكثر من 650 ألفا بنهاية عام 2022، وكذلك جزيرة “نودل” التي تطل على نهر الهان، والتي كانت من أشهر أماكن تصوير المسلسلات الكورية.
هذه الأعمال الدرامية لا تقدم فقط قصصًا مؤثرة، بل تبرز جمال الطبيعة والبنية التحتية المتطورة في كوريا، مما يجعلها وجهة جذابة وجديدة للمسافر العربي وغير العربي.
وفي هذا السياق، تقول ليلى عماد للجزيرة نت -وهي طالبة بالمرحلة الإعدادية في قطر- إنها بدأت شغفها بالدراما الكورية قبل 3 أعوام حيث جذبتها الحبكة الدرامية الاجتماعية التي تتميز بها هذه الأعمال، فضلا عن مناقشتها لقضايا المجتمع والأسرة والترابط الأسرى بعيدا عن العنف مع مراعاة قيم المجتمع.
وتضيف ليلى أن شغفها بالدراما الكورية دفعها إلى تعلم اللغة الكورية، وربطها بطباع المجتمع وتولّدت لديها رغبة كبيرة في زيارة كوريا واستكمال تعليمها الجامعي هناك، موضحة أن مسلسل الأم كان من أفضل المسلسلات التي شاهدتها خلال الفترة الأخيرة، وهو مسلسل يستكشف العلاقات بين الأم وابنتها.
3. انتشار تعليم اللغة
شهدت السنوات الأخيرة اهتماما متزايدا من الشباب العرب بتعلم اللغة الكورية، مدفوعا بتأثير المحتوى الكوري من موسيقى ودراما وأفلام. وقد سجلت المراكز الثقافية الكورية في العالم العربي مثل المركز الثقافي الكوري بالقاهرة إقبالًا كبيرًا على دورات تعلم اللغة، حيث تُقدّم بعضها مجانًا، مما يعكس تحولًا ملحوظًا من مجرد متابعة المحتوى إلى رغبة حقيقية في التفاعل مع الثقافة الكورية بشكل مباشر.
ولم يقتصر الأمر على المبادرات الفردية، بل دعمت حكومة كوريا الجنوبية هذا التوجه عبر إنشاء معاهد مثل معهد الملك سيجونغ لتعليم اللغة الكورية في الدول العربية، فعلى سبيل المثال، تستضيف دولة الإمارات 4 معاهد متخصصة في هذه اللغة.
هذه المبادرات لم تعزز فقط تعليم اللغة الكورية، بل ساعدت أيضًا نمو الروابط الثقافية بين العالم العربي وكوريا الجنوبية.
4. العلاج ومنتجات التجميل
تحولت كوريا الجنوبية إلى إحدى أبرز الوجهات العالمية للسياحة التجميلية، بفضل تقدمها في تقنيات العناية بالبشرة والجراحات التجميلية. يشدّ الكثير من المسافرين العرب الرحال لهذا البلد بحثًا عن علاجات متطورة تشمل مكافحة الشيخوخة.
وإلى جانب ذلك، حققت مستحضرات التجميل الكورية شهرة واسعة بين النساء العربيات، خاصة في الشرق الأوسط حيث أدى هذا الإقبال الكبير إلى نمو قطاع السياحة المرتبطة بالجمال.
إستراتيجية لجذب الزوار
أولت حكومة كوريا الجنوبية أهمية كبرى للثقافة والصناعات الإبداعية منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، ووسعت جهودها مؤخرًا لتشمل القطاع السياحي عبر إستراتيجية مصممة خصيصا لجذب السياح من العالم العربي. وشملت هذه السياسات ترجمة المواقع والتطبيقات إلى اللغة العربية، فضلًا عن انتشار المنصات الكورية التي تدعم لغة الضاد مثل “كوريا نت” الذي يعتبر صوتا رسميا لأخبار كوريا وثقافتها في العالم العربي.
كما أطلقت مشاريع موجهة خصيصا للمنطقة العربية مثل “عالم عربي في كوريا” وهو مشروع أطلقته في فبراير/شباط 2024 وزارة الثقافة والرياضة والسياحة ومنظمة السياحة في كوريا الجنوبية بالتعاون مع سفراء كل من سلطنة عمان والسعودية والكويت والإمارات وقطر، ويهدف لجذب السياح من الشرق الأوسط.
وشمل هذا المشروع استضافة سفراء تلك الدول في جولة تعريفية في كوريا في أكتوبر/تشرين الثاني 2024 لتقديم صورة حية عن كوريا على الصعيد السياحي.
وضمن خطتها لاستقطاب المزيد من السياح العرب اعتمدت سول نظام التأشيرات السياحية الميسرة، والتي يتم إصدارها عبر إجراءات إلكترونية سلسة، مما يجعل العملية سريعة وسهلة، ولا تكلف هذه التأشيرة سوى 40 دولارا.
بالإضافة إلى ذلك، قدمت كوريا “تأشيرة التدريب على الثقافة الكورية”، وهي فرصة فريدة للمشاركين الأجانب للتدريب على جوانب مختلفة من الثقافة الكورية. هذه التأشيرات تفتح أبوابًا جديدة للشباب العرب المهتمين بالتفاعل مع هذه الثقافة عن كثب.
وقامت الحكومة الكورية أيضًا بإطلاق برامج سياحية مخصصة للسياح العرب تهدف كوريا إلى جعل زيارتها أكثر توافقًا مع احتياجات السياح العرب من خلال مفاهيم مثل “السفر الصديق للمسلمين” (Muslim-friendly Travel). هذا المفهوم يشمل توفير خدمات سياحية تراعي الثقافة الإسلامية، بما في ذلك جولات تأخذ في الاعتبار نوعية الطعام الحلال للسائحين القادمين من دول الشرق الأوسط أو ما يعرف بـ K-Halal، الذي يُعتبر عنصرا أساسيا للسياح العرب في اختيارهم الوجهات السياحية في مناطق مثل إتايوان في العاصمة سول.
كما قامت منظمة السياحة الكورية (KTO) بتشجيع المنشآت السياحية على إعداد مساحات للصلاة تتوافق مع احتياجات الزوار العرب.
تأثير اقتصادي وسياحي مشهود
ولاقت سياسات كوريا الجنوبية لجذب السائح العربي نجاحًا ملحوظًا، إذ أسهمت الشعبية الواسعة للثقافة الكورية بين الشباب العربي في مختلف دول الشرق الأوسط في زيادة رغبتهم في زيارة هذا البلد.
وعلى الرغم من أن الزوار العرب ما يزالون يشكلون نسبة صغيرة من إجمالي السياح إلى كوريا، نظرا لارتفاع تكاليف السفر والسياحة، فإن الشرق الأوسط يعتبر سوقًا سياحيًا واعدا نظرا لقدرة الإنفاق العالي للسائح من تلك المنطقة وفترات الإقامة الطويلة التي يقضيها.
وأظهرت بيانات استطلاعات حديثة نشرها موقع “كوريا تايمز” أن قرابة 81.6% من الإمارات و72.1% من السعودية أظهروا ميلاً إيجابيًا نحو زيارة كوريا الجنوبية بعد تعرضهم للمحتوى الكوري.
كما أن المسافرين الإماراتيين كانوا في مقدمة العرب الذين قاموا بزيارة كوريا من بين دول العالم العربي لأغراض الطب التجميلي والسياحة العلاجية، مما يعكس التفوق الثقافي الكوري وتأثيره المتزايد في جذب السياح من المنطقة العربية.
ووفقا لإحصاءات منظمة السياحة الكورية (KTO)، شهدت السياحة العربية في كوريا نموًا ملحوظًا، حيث ارتفع عدد السائحين العرب من 46 ألفا و714 في عام 2005 إلى أكثر من 252 ألفا في عام 2019. هذا النمو يعكس تزايد الاهتمام بالسياحة الكورية في العالم العربي، حيث ساهمت الثقافة الكورية في تعزيز جاذبية البلد كوجهة سياحية.
ولكن مع ظهور وباء كورونا في عام 2020 تراجعت أعداد السائحين بشكل حاد، قبل أن تعود بشكل تدريجي وخصوصا منذ عام 2023، وفي سياق التعافي بعد جائحة كورونا، أظهرت إحصائيات موقع “كوريا نت” أن عدد السياح القادمين من دول مجلس التعاون الخليجي الذين زاروا كوريا العام الماضي بلغ أكثر من 31 ألفا، مما يمثل تعافيا بـ90% مقارنة بما قبل الجائحة.
—