هل تسهم الأمراض العقلية في خلق شعر متميز؟
أعاد نشر كتاب ستيفن م. واين بعنوان «أفضل العقول: كيف صنع آلن غينسبرغ شعراً ثورياً من الجنون» في العام الماضي، مما أثار تساؤلات مستمرة حول العلاقة بين الصحة العقلية والإبداع. وكما يوحي العنوان، فإن هذه الأسئلة تحمل طابعاً أدبياً واجتماعياً وسياسياً في الوقت نفسه.
هل تؤدي الاضطرابات النفسية إلى إنتاج شعر عظيم؟ لقد واجه العديد من الشعراء، سواء كانوا معروفين أو غير معروفين، تحديات تتعلق بالصحة العقلية منذ العصور القديمة وحتى اليوم، لكن هل يساهم ذلك في تميزهم أدبياً؟ كيف يمكننا التعامل مع هذه الأسئلة المعقدة التي تحمل في طياتها الكثير من التحديات؟
بغض النظر عن أي تقييم يتعلق بـ«العظمة» و«التميز» الذي قد يتجادل حوله حراس القوائم الأدبية الثابتة، يجب علينا أن نكون حذرين من الانجراف نحو ما يُعرف بـ«الشاعر الملعون» أو المحكوم عليه بالفشل، خاصةً الميل إلى إضفاء طابع رومانسي أو حتى تقديس على هؤلاء الشعراء وأعمالهم.
لا شك أن هناك تقاليد قديمة منتشرة في العديد من الثقافات تتعامل مع «الجنون» كوسيلة لتحقيق الرؤية والتنوير والنبوءة. وغالباً ما يُعتبر أولئك الذين وُصفوا بـ«المجانين» كأشخاص ذوي رؤية، يحملون الحقيقة التي تتعارض مع تفاصيل الحياة اليومية العادية، ويعملون على تقويض أنظمة المجتمع «المتحضر».
تجسدت تعقيدات هذه التقاليد في تمجيد “الغرباء” كشعراء في المجتمع ما بعد الصناعي، الذي يُعرف في علم الاجتماع بأنه مرحلة تطور اجتماعي يتم فيها تحقيق ثروة أكبر من خلال قطاع الخدمات مقارنة بقطاع الصناعة. في هذا السياق، يضع واين “الجنون” ضمن إطار ثقافي، بينما يُصنف “المرض العقلي” في إطار سريري، حيث يُعتبر الأخير مرضيًا وفقًا لما أشار إليه ميشيل فوكو بـ”النظرة السريرية” لمؤسسات المجتمع. وتجدر الإشارة إلى أن تعريفات هذه النظرة تتأثر بالتغيرات الآيديولوجية والتقنية في تلك المجتمعات.
من الأمثلة على ذلك الولايات المتحدة خلال ذروة الحرب الباردة و«قوانين جيم كرو»، وهو مصطلح أصبح شائعًا في الغرب في ثمانينيات القرن التاسع عشر عندما أصبح الفصل الاجتماعي قانونيًا في العديد من المناطق الجنوبية. وقد ظهرت حركات الحقوق المدنية والقومية السوداء والحركات المناهضة للحرب كاستجابة مباشرة للسياسات اللاإنسانية في تلك الفترة. كان المجتمع حينها يصنف «الآخر» على أنه حالة مرضية، حيث كانت الصورة المثالية للمواطنين الوطنيين من البيض من الطبقة المتوسطة، المستقيمين والموجهين نحو العائلة، تُعتبر القاعدة، بينما كانت الانحرافات تُنظر إليها بشك واعتبارها تهديدًا يجب تحييده أو احتواؤه لضمان «سلامة» الأمة وأمنها.
وصف ألن غينسبرغ هذا الظاهرة بـ«متلازمة الإغلاق»، حيث اعتبر أن المجتمع «الصحي» هو الذي يفرض الامتثال التام لقواعده، وينكر الجسد أو الوعي الفردي أو التجربة أو اللغة، من خلال تقديم وفرة مادية لفئة محددة من المواطنين.
ومع ذلك، فإن الشعراء الأميركيين مثل ألن غينسبرغ، وبوب كوفمان، وإليز كوين، وواندا كولمان، الذين واجهوا تحديات الصحة العقلية وعبروا عن تلك التجارب في أعمالهم، تمكنوا من كسر هذه الهياكل الثابتة. فقد سلطوا الضوء على الأثر الفردي للمعاناة في مواجهة مناخ من الخوف والخدر.
من خلال ذلك، أظهر هؤلاء الشعراء المرض الذي يعاني منه المجتمع، حيث سعى إلى إضفاء طابع مرضي عليهم واحتوائهم. وقد عبّر كل من هؤلاء الشعراء الأربعة، بأسلوبهم الشعري المميز، عن حساسية تلخصها كلمات الروائي جاك كيرواك في كتابه “الإيمان والتقنيات في النثر الحديث” (1959): “لا يوجد ما يدعو للخوف أو الخجل من كرامة تجربتك أو لغتك أو معرفتك”.
وبصفته طبيباً نفسياً، يقدم وين رؤية فريدة لسيرة غينسبرغ المعروفة، حيث تناول جميع المراحل الرئيسية فيها، خاصة تلك المتعلقة بالعلاقة بين الشعر وفهم غينسبرغ المتغير لـ”الجنون”.
منذ طفولته، شهد غينسبرغ الصراعات القاسية التي خاضتها والدته نعومي مع الفصام البارانويدي، حيث قضت عقدين من الزمن تعاني من هذا المرض في المستشفيات النفسية وخارجها.
كانت تجربة غينسبرغ الشخصية في معهد الطب النفسي بمستشفى كولومبيا بريسبتيريان، حيث قضى ثمانية أشهر كمريض في عام 1949، بمثابة دافع قوي له. هناك، التقى بكارل سولومون، الذي أهداه قصيدة “Howl” (عواء)، التي تُعتبر واحدة من أشهر قصائده. كما أن هذه التجربة زرعت بداخله بذوراً شعرية قائمة على التعاطف والشفاء، والتي قام غينسبرغ بتطويرها على مدار مسيرته الأدبية.
تُعتبر “Howl” قصيدة تعبر عن الرثاء بشكل صريح، وتتضمن نداءً للشفقة الإنسانية والخلاص. السطر الافتتاحي للقصيدة قد لا يكون واضحاً للبعض، رغم أنه يُعد من أكثر الأسطر اقتباساً في الشعر الأميركي خلال القرن العشرين، حيث يقول:
“لقد رأيت أفضل عقول جيلي تدمرها الجنون، والجوع، والهستيريا، والعري.”
هل يرتبط هذا “الجنون” بـ”أفضل العقول”؟ أم أنه جنون يهدد المجتمع ذاته؟ هنا يوجد غموض متعمد، يوضحه غينسبرغ جزئيًا من خلال السؤال والإجابة في بداية الجزء الثاني من قصيدته.
العقل الذي يتحدث عنه غينسبرغ هو عقل غير مرتبط بأي قيمة إنسانية، إنه عقل مجرد ومنفصل عن القلب والجسد. وبالتالي، فإن الخروج من هذا العقل قد يعني الحفاظ على إنسانيتك، لكن هذا قد يجعلك مشكلة بالنسبة للمجتمع.
كما يشير وين، فإن غينسبرغ أدرك هذه الثنائية في مفهوم الجنون، حيث يمكن أن يكون “محرراً أو ضاراً”. وقد قادته استكشافاته للتوترات بين هذين المنظورين إلى تناول هذه المفاهيم بشكل عميق في شعره.
ليس من قبيل الصدفة أن قصيدة “Howl” استلهمت جزئيًا من قصيدة كريستوفر سمارت “Jubilate Agno”، التي كتبها أثناء احتجازه في مصحة لعلاج ما يُعتقد أنه كان اكتئابًا. كما تأثر غينسبرغ أيضًا بقصيدة “Ode to Walt Whitman” لفديريكو غارسيا لوركا، الذي عانى من الاكتئاب والقلق بعد اكتشاف ميوله الجنسية، بالإضافة إلى المقدمة الأولى لقصيدة “At the Top of My Voice” لفلاديمير ماياكوفسكي، الذي انتحر عام 1930.
عندما أصر غينسبرغ في الجزء الثالث من قصيدة “Howl” على أن الروح بريئة وخالدة، وأنه لا ينبغي لها أبداً أن تموت في مستشفى للأمراض النفسية محروس بالسلاح، فإنه يشير إلى وجود حياة تتجاوز الهياكل التي تصنف ما هو في جوهره مقدس وغير قابل للاحتواء على أنه مرض.
وقد تطور شعر غينسبرغ في أعماله اللاحقة، مثل قصيدة “Kaddish” التي كتبها عام 1962، وهي قصيدة رثاء مؤلمة تعبر عن حبّه لأمه التي توفيت في مستشفى “Pilgrim State” قبل فترة قصيرة من نشر قصيدة “Howl”.