جنوب سردينيا القسم الجميل والمهمل في إيطاليا
كان الهدوء سائدًا في جنوب سردينيا منذ فترة طويلة، حيث يعتقد البعض أن ذلك يعود إلى تراجع الحضارة النوراجية في العصر البرونزي في المنطقة. ومع ذلك، في ثاني أكبر جزيرة في إيطاليا، حيث تفوق أعداد الأغنام عدد السكان بشكل كبير، تظهر طاقة جديدة واضحة في “كالياري”، العاصمة الصغيرة للبحر الأبيض المتوسط، وفي الريف المحيط بها.
يقول المؤرخ المحلي فينتورينو فارغييو أثناء مشاهدتنا للاحتفال السنوي للأزياء الشعبية في سانت إفيزيو: «كنا نعتبر أنفسنا ريفيين، معزولين في هذه الجزيرة النائية. لكن سكان سردينيا بدأوا يدركون أن ثقافتنا تحمل قيمة حقيقية لنا وللزوار الأجانب».
في كالياري، يزداد شعور الفخر، مصحوبًا بموجة من التنمية الجديدة التي تهدف في معظمها إلى استقطاب السياح المتزايدين. في حي مارينا، الذي يشهد تغييرات سريعة، كان في السابق معقلًا لصيادي الأسماك، لكنه أصبح اليوم مزيجًا حيويًا من المهاجرين والمقيمين القدامى. سيتم إنشاء متنزه مصمم من قبل المهندس المعماري «ستيفانو بويري»، وهو حديقة مورقة تمتد على طول الواجهة البحرية. كما سيتم ربط خط قطار خفيف بالمارينا مع ضواحي كالياري، بالإضافة إلى إنشاء ميناء جديد من المتوقع أن يُفتتح في عام 2026، مما سيسمح بنقل سفن الرحلات البحرية بعيدًا عن المدينة، مما يتيح للسفن الشراعية الرسو (وإنفاق الأموال) في وسط كالياري.
تُعتبر كالياري والمنطقة الجنوبية التي تتميز بساحلها الرملي الأبيض ومياهها الزرقاء الخلابة، مثالاً على كيفية تأثير السياحة على المناطق التي تعاني من قلة الفرص. فقد يكون المد السياحي مدمراً أو نعمة لهذه المناطق. على مر العقود، تحولت “كوستا إزميرالدا” في شمال سردينيا إلى وجهة فاخرة للأثرياء، مثل ميلانو، مما يعكس كيف يمكن للسياح أن يستعمروا منطقة معينة.
هل يمكن أن تكون هناك تجربة سفر أكثر تناغماً من زيارة الجنوب؟ في ظل السياحة المفرطة التي أصبحت تمثل تحدياً للعديد من الوجهات الإيطالية، قمت بزيارة المنطقة وسألت السكان المحليين عن كيفية تحسين المستقبل.
قال سامويلي موسكاس، أحد مؤسسي مطعم «سابوريس» الرائع ومقهى في مارينا: «هذه المدينة تتطور لتلبية احتياجات السياح». يتميز المطعم بأجواء باريسية جذابة، لكنه يقدم قائمة طعام محلية ويستقطب الزوار من السكان المحليين، وهو واحد من العديد من المطاعم الحضرية في كالياري التي تنافس تلك الموجودة في المدن الإيطالية الكبرى. قدم لي موسكاس، الذي بدأ مسيرته في «سابوري دي سردينيا»، وهو متجر قريب للأغذية، طبقاً من الهليون البري من شمال سردينيا، وأشار إلى أنني كنت الشخص الوحيد غير السرديني في غرفة الطعام. ثم أضاف: «لقد أنشأنا هذا المكان لمجتمعنا. نرحب بالسياح أيضاً، لكننا نرغب في أن ينغمسوا في ثقافتنا، في مكان خاص بنا».
بالمقارنة مع المدن الإيطالية الأخرى، قد تبدو المعالم الثقافية في كالياري أقل عددًا، على الرغم من أن المتحف الأثري يضم مجموعة رائعة من القطع الأثرية النوراجية والفينيقية والرومانية القديمة من سردينيا، بما في ذلك تماثيل الرماة النوراجيين المنحوتة في الحجر، والمعروفة باسم عمالقة «مونتي براما». بالإضافة إلى ذلك، توجد مواقع أخرى مثل «غياردينو سونورو»، وهو تركيب خارجي يتضمن منحوتات حجرية تُستخدم لصنع الموسيقى من قِبل الفنان المحلي «بينوكيو سيولا»، فضلاً عن كاتدرائية باروكية تتميز بقبوها المقوّس المغطى بالبلاط الذي يُصوّر حوالي 200 قديس.
تُعتبر المدينة وجهة مثالية للاستمتاع من خلال التجول فيها. يُعد شاطئ “بويتو” الذي يمتد لعدة أميال مكانًا رائعًا للخروج في كالياري خلال الأيام الدافئة، حيث يمكن العثور على نوادي الشاطئ ومطاعم المأكولات البحرية التقليدية مثل “ريستورانتي كالاموسكا” التي تقع على ضفاف الماء. كما تتجمع طيور الفلامنغو الوردية، التي تُعتبر من أبرز معالم المدينة، بالقرب من مسطحات “مولينتارغيوس” الملحية. يتوافد السياح والسكان المحليون إلى حصن سانت ريمي، الذي يُعد أفضل نقطة لمشاهدة المناظر في هذه المدينة ذات التلال المنحدرة. وفي المساء، تمتلئ ساحة “غيتانو أورو” بالشباب الذين يتجمعون حول بار “فينيريا فيلانوفا”، قبل أن يتوجهوا لتناول العشاء في المطاعم التقليدية مثل “تراتوريا ليليكو” التي تأسست عام 1938، أو في أحد مطاعم الجيل الجديد مثل “ريتروبانكو” و”وسابوريس”.
في الوقت الراهن، لا تزال كالياري تبدو كمدينة تنتمي إلى سكانها، على عكس فلورنسا أو البندقية أو غيرها من المدن التي تعج بالسياح. وأوضح جوزيبي دي مارتيني، المدير العام لمطعم «ريتروبانكو»، قائلاً: «لكننا نرغب في زيادة عدد الزوار هنا». وأضاف: «يجب أن تصبح كالياري عاصمة البحر الأبيض المتوسط».
يعتبر جبن «لاي» سبباً كافياً لزيارة هذه المنطقة. ففي ورشته الصغيرة في «سينوس»، يتبع تقليداً سردينياً قديماً في صناعة الأجبان الطبيعية باستخدام الحليب الطازج من الأغنام التي تملكها عائلته. ويقول: «يصبح الطعام المُعد بطريقة واعية وسيلة لنقل الثقافة»، بينما كنا نغمر أنفسنا في الحليب الساخن، ونسكب اللبن الرائب في وعاء نحاسي مُسخن على النار. يمكن للزوار زيارة المتجر لتذوق أجبانه العتيقة الرائعة أو، كما فعلت، تجربة صناعتها بأنفسهم.
في منطقة «سولسيس» المجاورة، اكتشفت تفسيراً جديداً لـ«سردينيا»، حيث يتم دمج الحرف التقليدية مع التصميم العصري بشكل جريء. «بريتزايدا» هو الاستوديو الإبداعي الذي أسسه كل من «إيفانو أتزوري» و«كاير تشينڨن»، وهما مهاجران من كاليفورنيا وميلانو، حيث يعملان على تصميم وإنتاج الأثاث بالتعاون مع الحرفيين المحليين. هذا الربيع، أطلق الثنائي مشروع «لوكسي بيا»، الذي يتضمن مجموعة من بيوت الضيافة الحجرية المحاطة بأشجار الزيتون والحقول الخضراء. قاما بإعادة بناء المساكن وفق الأسلوب التقليدي للمنطقة، وزيناهما بأسرّة «بريتزايدا» ذات الإطارات الخشبية المنحوتة الرائعة، وطاولات جانبية مصنوعة من الفلين المنحوت، بالإضافة إلى مجموعة من القطع المعاصرة المصنوعة يدوياً.
في وقت لاحق، استأجرت دراجة كهربائية للوصول إلى “تومبي دي جيغانتي”، وهو موقع “نوراجيكي” يضم مسارات للمشي لمسافات طويلة تطل على التلال المكسوة بالأشجار. تقع شواطئ الأحلام مثل “بورتو بينو”، و”سو بورتو دي سو تريغو”، و”إيس سوليناس” على بُعد مسافة قصيرة بالسيارة في البحر الأبيض المتوسط، بالإضافة إلى مجتمع الصيد الغني بالتاريخ في جزيرة “سانت أنتيوكو”، التي ترتبط بالجزيرة الرئيسية عبر جسر بري ضيق.
في عمق منطقة «سولسيس»، المعروفة بأعمال التعدين السابقة، وعلى الساحل الجنوبي الغربي، تم افتتاح فندق «لو ديون بيسيناس» في مايو (أيار) الماضي. يُعتبر هذا الفندق الفاخر تحولاً طموحاً لمستودع تعدين سابق إلى وجهة طبيعية مميزة. أصبحت الحديقة المحيطة جزءاً من مسار المشي «سانتا باربرا»، الذي يتبع الطرق التي كان يسلكها عمال المناجم في تنقلاتهم اليومية. لكن الجاذبية الحقيقية تكمن في العزلة الساحرة للفندق وشاطئه المطل على الغروب، المدعوم ببعض من أطول الكثبان الرملية في أوروبا، والتي تُعتبر “ربما الجزء الأكثر عزلة من ساحل سردينيا”، كما أوضحت المالكة «مارسيلا تيتوني»، التي قضت عشر سنوات في تجديد الفندق، قائلة: “ما أفضل وسيلة لإحيائه سوى من خلال الزوار وهذا العمل المفعم بالمحبة؟”.