ثقافة

«سفنكس» عُمان

خرجت من موقع حصن سلوت الأثري في سلطنة عُمان مجموعةٌ من القطع البرونزية المنحوتة، تتميز بطابعها التصويري، منها قطعة صيغت «على شكل حيوان هجين بوجه بشري»، كما قيل عند الإعلان عن اكتشافها منذ بضع سنوات. يمثّل هذا الكائن الغريب على الأرجح نموذجاً تصويرياً يُعرف في كل اللغات باسم «سفنكس»، تعدّدت أشكاله على مدى قرون من الزمن في سائر أنحاء العالم القديم، غير أن حضوره في جنوب شرق الجزيرة العربية يبدو نادراً للغاية، كما توحي المكتشفات الأثرية التي ظهرت إلى يومنا هذا.

يقع حصن سلّوت الأثري في سهل وادي سيفم، بالقرب من ملتقى وادي بهلاء، ويتبع محافظة الداخلية. ظهر اسم هذا الموقع للمرة الأولى في عالم الآثار، حين أشارت إليه بعثةٌ استطلاعيةٌ تابعةٌ لجامعة هارفارد في تقرير نُشر سنة 1973، وبعد ثلاثة عقود، تمّ تكليف بعثة تابعة لجامعة بيزا الإيطالية تنفيذ برنامج متكامل للمسح والتنقيب في هذا الموقع، وتواصلت أعمال هذه المهمة منذ ذلك الحين، وأدّت إلى الكشف عن معالم مدينة أثرية مطمورة تحت الرمال، وحدّدت مراحل تاريخها الطويل، كما خرجت بمجموعة كبيرة من المكتشفات متعدّدة الأشكال والأنواع.

في مطلع عام 2019، تحدثت العالمة أليسندار أفزيني، رئيسة البعثة الإيطالية لجامعة بيزا، عن آخر الاكتشافات التي عُثر عليها في هذا الموقع، وأشارت إلى مجموعة من القبور الأثرية حوت مجموعةً من اللقى الأثرية «ارتبطت بمظاهر الترف والبذخ كأواني الشرب البرونزية، أهمّها إناء ذو مصب على شكل حصان، وإناء آخر على شكل حيوان هجين بوجه بشري، بالإضافة إلى الزمزميات وجرار التخزين، والأواني النحاسية، والأواني الزجاجية الرومانية، ومجموعة كبيرة من السيوف ورؤوس السهام والحراب الحديدية والبرونزية، وهو ما يدل على أنها مدافن مخصصة للمحاربين ارتبطت بمعركة حربية على ما يبدو».

تعود هذه المكتشفات كما يبدو إلى فترة تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الميلادي الأول، وتُماثل مكتشفات أخرى خرجت من مقابر متفرّقة من شبه جزيرة عُمان. في سلطنة عُمان، ظهر المصب البرونزي المصوغ على شكل حصان في مقبرة تقع في سمد الشأن، في ولاية المضيبي التابعة لمحافظة شمال الشرقية، كما ظهرت مقبرة تقع في ولاية سمائل التابعة للمحافظة الداخلية. وفي دولة الإمارات العربية، ظهر هذا الحصان في موقع مليحة التابع لإمارة الشارقة، وموقع الدُّوْر التابع لإمارة أم القيوين، كما ظهرت مؤخراً في أبوظبي مقبرة تمّ اكتشافها في شعبية الكويتات، شرق متحف منطقة العين، في إمارة أبوظبي.

أخذ هذا النصب شكل رأس ثور في مجموعة أخرى من القطع المشابهة، أشهرها قطعتان من محفوظات مركز مليحة للآثار، وصل أحدهما بشكل كامل، فيما فقد الآخر طرفي قرنيه. في المقابل، ظهر هذا النصب برأس آدمي وجسم بهيمي في قطعة سلوت، وتبدو هذه القطعة فريدةً من نوعها في هذا الميدان إلى يومنا هذا. بدا هذا الرأس الآدمي أنثوياً، كما توحي ملامح وجهه الدائري المتمثلة بعينين دائريتين مفتوحتين، وأنف بارز ينسدل مستقيماً من أعلى الجبين، وثغر صغير يفصل بين شفتيه المطبقتين شق أفقي بسيط. تحيط بهذا الوجه كتلة من الشعر المرصوف على شكل مثلّث يستقرّ فوق خصل معقودة تؤلّف شبكة من الكتل المستطيلة المتراصة. تعلو هذا الرأس قامةٌ تخرج منها قائمتان أماميتان بهيميتان تمتدّان أفقياً إلى الأمام، مع انحناءة بسيطة في الوسط عند مفصل الكوع. تسبغ هاتان القائمتان على هذا الوجه طابع السفنكس بشكل لا لبس فيه، وتهبان هذا النصب التقليدي شكلاً فريداً.

في البدء، ظهر السفنكس أولاً في مصر، خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد، وتكوّن من جسم أسد له رأس رجل آدمي يعتمر غطاء الرأس المخطط الذي يرتديه الملك. ثم ظهر في بلاد ما بين النهرين، خلال الألفية الثانية قبل الميلاد، وتميّز بجناحين ورأس رجل يعلوه قرنا ثور. اتّخذ هذا الكائن طابعاً أنثوياً في الهلال الخصيب، ودخل بهذا الطابع العالم اليوناني، وبدا أشبه بلبوءة مجنحة لها رأس امرأة. دخلت هذه اللبوءة جنوب الجزيرة العربية في مرحلة متأخّرة، واتّخذت هناك طابعاً محلياً، كما تشهد مجموعة من القطع الأثرية المتنوعة. وفي هذه الحقبة، بلغ هذا السنفكس مدينة الحِجر النبطية في إقليم الحجاز، حيث ظهر استثنائياً على واجهتين من واجهاتها البديعة.

في جنوب شرق الجزيرة العربية، يظهر هذا السفنكس في سلوت، ويشابه في تكوينه المثال الذي تكرّس في اليمن القديم، وتجلّى في قطع عديدة، منها على سبيل المثل مجموعة من خمس قطع جزئية محفوظة في المتحف البريطاني في لندن، مصدرها مدينة مأرب الأثرية. إلى جانب هذه القطعة الفريدة، يحضر هذا الكائن العجيب في قطعتين من الميراث العُماني، تتمثّلان بطبقين معدنيين زُيّنا بنقوش وفقاً لتقليد محلي ساد في هذه المنطقة.

خرج أحد هذين الطبقين من موقع الفويدة التابع لمحافظة الظاهرة في سلطنة عُمان، وفيه ظهر السفنكس على شكل أسد مجنّح له رأس امرأة ضمن سلسلة من الحيوانات رباعية القوائم. وخرج الطبق الآخر من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين، وفيه ظهر السفنكس في شكل مشابه ضمن مشهد صيد حلّ فيه ثلاثة رجال، مع حصانين وأسدين.

 

Loading

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Show Buttons
Hide Buttons
Translate »