ثقافة

«مولد أمة» يصوَّر التاريخ منحازاً ويدين «الأفارقة»

في عام 1916، أقدم رجل أبيض يُدعى هنري بروك على إطلاق النار على فتى أسود يبلغ من العمر 15 عاماً يُدعى إدوارد ماسون، وذلك بعد مشاهدته لفيلم «مولد أُمّة»، مشبعاً برسالة الفيلم العنصرية ضد السود. تُعدُّ هذه الحادثة من الأمثلة على تأثير الفيلم في تأجيج العنف العنصري في الولايات المتحدة.​

الفيلم، الذي أخرجه ديڤيد وورك غريفيث وعُرض لأول مرة في عام 1915، أثار جدلاً واسعاً بسبب محتواه العنصري. واجه الفيلم احتجاجات من منظمات مثل الجمعية الوطنية لتقدم الملونين (NAACP)، وحُظر في ولايات مثل (ألاسكا وكاليفورنيا وكنتاكي ونيويورك). دافع غريفيث عن عمله بقوله إنه لم يقصد الإساءة لأحد لكن من حقّه التعبير عن رأيه، بيد أنه في العام التالي أخرج فيلم «تعصّب» (Intolerance)، الذي تناول موضوعات التسامح من خلال 4 قصص تاريخية متوازية، في محاولة للرد على الانتقادات التي وُجهت لفيلمه السابق.

بذرة الشقاق

استند المخرج ديڤيد وورك غريفيث في فيلمه «مولد أُمّة»، إلى رواية «مولد أمّة: رومانسية تاريخية عن الكو كلوس كلان» (The Clansman: A Historical Romance of the Ku Klux Klan) للكاتب توماس ديكسون جونيور، التي نُشرت عام 1905، ومن ثَمَّ حوّلها إلى مسرحية ناجحة بالاسم نفسه. العنوان الأصلي للفيلم كان «The Clansman»، إلا أن غريفيث غيّره لاحقاً إلى (The Birth of a Nation) ليعكس رؤيته الأوسع حول «مولد أُمّة» بعد الحرب الأهلية الأميركية.​

شارك في بطولة الفيلم عدد من نجوم السينما الصامتة، من بينهم ماي مارش، وميريام كوبر، وماري ألدن.

يُعد «مولد أُمّة»، علامة فارقة في تاريخ السينما الأميركية من الناحية التقنية والسردية. وفي مضمونه هو فيلم متعصِّب، هو أكثر من فيلم يؤيد أهل الجنوب الأميركي كونه يُشيد بمنظمة «كوكلس كلان» التي عُرفت بحرقها السود أحياء، ويقدِّم السود في صور بشعة وعنصرية واضحة.

‫يفتح «مولد أمة» بتمهيد يُصوّر وصول السود «عبيداً» إلى الولايات المتحدة في القرن الـ17، وكيف أن إحضارهم إلى الولايات المتحدة «زرع البذرة الأولى للانشقاق» ومن ثم‬َّ هناك مشاهد لبيع الرقيق في الجنوب. بعد ذلك يدلف بنا إلى عائلتي ستونمان المنفتحة على مبدأ «تحرير العبيد» وعائلة كاميرون المناوئة. مع بداية الحرب تصطفُّ كل عائلة ضد الأخرى حسب ميولها السياسية.‫ بطاقة مصوّرة (كون الفيلم أُنتج صامتاً) تقول: «ضعف القائد العظيم سوف يُبلي الأمة»، وذلك في إشارة إلى الرئيس إبراهام لينكولن الذي صدَّق على قانون «تجريم العبودية».

بعد ذلك، يبدأ فصلٌ جديد مع نشوب الحرب الأهلية، حيث تُعرض مشاهد توجُّه أبناء كاميرون الثلاثة إلى القتال، بوصفهم «هدية الأم إلى قضية الولايات الانفصالية». يلي ذلك مشاهد للجنود والمتطوِّعين الجنوبيين المتحمّسين للدفاع عن «القضية الحقة: النصر أو الموت»، كما يوضح الفيلم.

إنقاذ الشرف الأبيض

بعد عامين ونصف، يبدأ الجيش الشمالي بتحقيق انتصاراته ويغزو المدن والبلدات الجنوبية. يأمر جنرال شمالي أبيض قواته من المجنّدين السود باقتحام منازل البلدة، ومن بينها منزل عائلة كاميرون. يُقدَّم الجنود السود (أدّى أدوارهم ممثلون بيض ملطّخون بالمساحيق) كمصدر تهديد لبنات كاميرون، اللواتي يظهرن في حالة من الخوف من الاغتصاب. تُركِّز الكاميرا على وجوه الجنود السود «المتعطّشة»، في تصوير عنصري فج.

في هذه اللحظة، ينطلق رجال منظمة «كو كلوكس كلان» لإنقاذ نساء البلدة، ويصلون في الوقت المناسب لدحر المجنَّدين السود. في مشهد لاحق، يُعرض موت المجند الشمالي تود ستودمان إلى جانب صديقه الجنوبي ديوك كاميرون، في محاولة لإبراز فكرة المصالحة بين الشمال والجنوب، في سردية تستثني الأميركيين من أصل أفريقي بشكل تام.

هناك سود «أوفياء» (حسب تعريف الفيلم) من بينهم خدم ينقذون حياة «مالكيهم» وآخرون متعاونون مع المنظمة. في المقابل، يُقدَّم المجنَّدون السود كرمز للوحشية، في صورة تهدف إلى إثارة الرعب لدى المشاهدين البيض من «فحولة» السود و«همجيتهم» المحتملة في حال مُنحوا قدراً من الحرية. هذه الصورة النمطية تُسوِّق لفكرة الحاجة إلى منظمة يمينية تفرض «النظام الأبيض» وتمنع ما يُعدُّ، من منظور الفيلم، فوضى تهدّد المجتمع.

من المشاهد اللافتة في هذا السياق، انتحار فلورا (التي تؤدي دورها ماي مارش) بإلقاء نفسها من أعلى هضبة، هرباً من مطاردتها على يد رجل أسود. يظهَر لاحقاً هذا الرجل وهو يتعرّض للجلد على يد عناصر المنظمة، في مشهد يجسِّد بوضوح رسالة الفيلم المنحازة، التي تبرِّر العنف تحت ذريعة «حماية الشرف» وتكرِّس الخطاب «العنصري» الموجّه ضد «السود».

أعمال سابقة

‫استخدم غريفيث المونتاج بأسلوب بارع، مضيفاً إلى فيلمه بعداً تشويقياً لافتاً. بيد أن التوليف لم يكن سوى أحد جوانب إنجازاته التقنية والفنية. فقد اعتمد، على سبيل المثال، على التصوير الليلي في وقت لم يكن شائعاً بعد. كما واظب على التصوير في المناطق الطبيعية خارج الاستوديوهات، وهو أمر نادر آنذاك في إنتاج الأفلام الطويلة. تميّز غريفيث أيضاً باستخدامه اللقطات القريبة لإبراز الانفعالات على وجوه الممثلين، وحرَّك الكاميرا أفقياً (Pan Shots)، ليصبح من أوائل من أدخلوا هذا الأسلوب إلى السينما الأميركية منذ بداياته مخرجاً عام 1905. كما لجأ إلى اللقطات المتحركة بالتوازي مع حركة الموضوع داخل الإطار (Tracking Shots)، كما استخدم تقنيات الانتقال بين المشاهد مثل الإذابة (Dissolve) والتلاشي والظهور التدريجي (Fade In/Fade Out).

صحيح أن هذه الأساليب لم تكن جديدة تماماً على السينما العالمية، بيد أنها كانت في معظمها محاولات محدودة، فيما تمكَّن غريفيث من توظيفها ضمن منهج سردي أكثر دلالة وتأثيراً.

 

Loading

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Show Buttons
Hide Buttons
Translate »