«قلعة الملح»… صراع الإنسان مع ذاته والزمن

«قلعة الملح» رواية جديدة للروائي ثائر الناشف، صاحب «ثلاثية المسغبة»، التي تتناول الثورة السورية 2011 بأبعادها الإنسانية العميقة. وفي هذا العمل، يفاجئنا الناشف بنقلة نوعية في تقنيات السرد، مقدّماً عوالم جديدة، وأمكنة مغايرة، وأدوات فنية تعكس تطوره الأدبي.
الرواية تسرد حكاية «سامي»، اللاجئ السوري في فيينا الذي يعمل مساعداً اجتماعياً، متنقلاً بين منازل المسنين والمحتاجين، ويعيش تمزقاً بين حنينه إلى وطنه الذي أنهكته الحرب، ومحاولاته للاندماج في مجتمع غريب لا يمنحه أكثر من دور ثانوي.
تتداخل حياته مع شخصيات تحمل أوجاعها الخاصة، مثل «الدكتور غولد شتاينر»، الطبيب النفسي الألماني المسنّ الذي يعاني مرضه وعزلته، وزوجته «جيرترود» التي تكافح للحفاظ على توازن هشٍّ، و«السيّدة كورتس»، العجوز الثرية التي تقضي أيامها في وحدة قاتلة بين أطلال ماضٍ مترف.
«قلعة الملح» ليست فقط قصة شخصيات تواجه الوحدة والغربة، بل هي عمل أدبي يتعمق في قضايا إنسانية كبرى: الهوية، والحنين، والحب المفقود، وصراع الإنسان مع ذاته والزمن. يجمع الناشف بين الحوارات الفلسفية والصور الأدبية، ليقدم عملاً يمزج بين الحكاية الفردية والتوثيق الإنساني الشامل، موظِّفاً خلال ذلك: المذكرة، والسيرة، والتاريخ، عبر تقنيات متعددة.
في هذا العمل الروائي الجديد، يبرع الناشف في تحويل التفاصيل اليومية إلى لوحة فنية تعكس تناقضات البشر وهشاشتهم، متيحاً للقارئ رحلة فكرية تحيله إلى دلالات ومعاني الحياة والانتماء، كما أن الرواية شهادة ووثيقة إبداعية على أدب يُكتَب بعمق ورؤى مستجدة، ليثبت مجدداً قدرة الروائي على إنتاج سرد روائي يجمع بين المأساة والجمال، في آن واحد.
تقدّم رواية «قلعة الملح» شخصية «سامي» على أنها رمز للإنسان المغترب، عالقاً بين ماضٍ مؤلم وحاضر يفرض عليه دوراً هامشياً، من خلال عمله مساعداً اجتماعياً، إذ يلتقي شخصيات تمثل حالات إنسانية متنوعة منها: «الدكتور غولد شتاينر» الذي يعكس صراع الإنسان مع الزمن وذكريات الحرب، بينما تسعى «جيرترود» للحفاظ على استقرار هش في ظل معاناة زوجها، في حين تعيش «السيدة كورتس» عزلة عميقة تفضح عبثية الحياة حين تفقد معناها… هذه الشخصيات ليست فقط مكونات للسرد، بل هي رموز تسلّط الضوء على قضايا الغربة، والهشاشة الإنسانية، والتناقضات النفسية والاجتماعية، إذ تمثل الرموز في الرواية عناصر أساسية لفهم عمق النص.
فالمصعد المتوقف، على سبيل المثال، يرمز إلى محطات الحياة ومفاصلها الحرجة. ثم إن النظرة إلى الصور تستدعي الحنين إلى الماضي ومحاولات استعادة الذات، بينما تعكس الأمراض صراع الإنسان مع هشاشته الطبيعية وحتمية الزمن، كما أن فيينا نفسها ليست مجرد مسرح للأحداث، بل رمز للغربة؛ مدينة تضج بالحياة لكنها تضع شخصياتها في عزلة قاتلة.
من الناحية الأسلوبية، الرواية تشكل نقلة نوعية في مسيرة الناشف الأدبية، وإذا كانت «ثلاثية المسغبة» توثق الثورة السورية بواقعية مباشرة، فإن «قلعة الملح» تتجه نحو الغوص في أعماق النفس البشرية عبر سرد نفسي متقن باعتبار أن الحوارات ليست مجرد أداة للتواصل بين الشخصيات، بل وسيلة لفهم القضايا الكبرى كالهوية والوجود. كذلك نرى أن التداخل بين الماضي والحاضر يضيف بعداً ديناميكياً للنص، مما يجعل الزمن عنصراً محورياً في بنية السرد.
وبهذا المعنى فإن الرواية تعكس توجهاً وجودياً واضحاً، حيث تعيش كل شخصية صراعها الخاص مع الأسئلة الكبرى؛ إذ يبحث «سامي» عن معنى لحياته في ظل الغربة عن الوطن والذات، بينما يتأمل «الدكتور شتاينر» هشاشة الإنسان أمام الزمن، وتعكس «السيدة كورتس» عبثية الحياة حين تصبح بلا غاية.
الرواية تدعو القارئ إلى إعادة التفكير في معاني الهوية والغربة والانتماء، وتثير تساؤلات وجودية عن مكان الإنسان في العالم.
ورغم التركيز المكثف على الحوارات الفلسفية، فإن معادلة التوازن بين السرد والتأمل الفكري تحاول أن تتموضع، أو تتماهى على امتداد صفحات الرواية، لكنَّ هذا لا ينتقص من قيمة العمل بوصفه وثيقة أدبية عميقة تقدّم رؤية إنسانية شاملة لصراعات الإنسان الداخلية.
- برلين