ثقافة

المفكرة الإيطالية صبرينة لاي: المجتمع الاسلامي نافذة أمل وعلينا العمل بشجاعة لحماية حقنا في العيش بكرامة

في هذه الأَيام التي لم يَبْقَ لنا فيها شيء

أَتذكَّرُ عُمَر

حين لم يَعرِف أَهلُ القُدس مَنِ الخليفةُ ومَنِ الخادمُ

وهما يتناوبان الرُّكوب على الجَمَلِ نَفْسِهِ

ويحلو لي أَن أَرى المُساعِدَ الفَتِيَّ يتلفَّتُ نحو أَسوار المَدينة

والخليفةُ يَسْحَبُ جَمَلَهُ ويُرخي الزِّمام ويُكَبِّرُ

أَيُّ غِبْطةٍ أَحَسَّها المُساعِدُ الصّغيرُ والخليفةُ يَخْدِمُه؟

هكذا يتذكّر الشاعر الفلسطيني “نجوان درويش” أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، معيدا إيانا للحظة لم تسجّلها الكتب كلحظة “جيوسياسية” استثنائية في تاريخ المنطقة فحسب، بل باعتبارها لحظة إنسانية عميقة لم يعد التاريخ ليكتب شيئا يضاهيها إلى يومنا هذا: لحظة فتح بيت المقدس على يد عمر.

وعن هذا المشهد تقول المفكرة الإسلامية الإيطالية صبرينة لاي في أحدث إصداراتها، وهي السيرة الأولى لعمر بن الخطاب باللغة الإيطالية، أن “تواضع عمر لم يكن سوى ثمرة لوعي عميق من رجل عرف مهمته في هذه الحياة”، وتضيف الكاتبة في عملها الصادر في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2023 أن “تواضع عمر وزهده كان صفة يتشاركها معه أبرز صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما هو حال أبو عبيدة”، وتواصل الكاتبة: “إن عمر التقى أبو عبيدة الجراح في الشام وهو أمير عليها، فلم يجد في بيته إلا سيفه وترسه ورحله”.

تُذكّرنا صبرينة لاي بهؤلاء الفرسان المضيئين من تاريخنا ونحن نعيش وحشة الإبادة، ويستحضر الروائي الإيطالي ورئيس مهرجان البندقية السينمائي، بييترانجيلو بوتافووكو، في مقال له بتاريخ 2 أكتوبر/تشرين الأول الماضي على صحيفة ليبيرو الإيطالية “وقت البدوي” للشيخ عبد القادر الصوفي، منددا بجرائم “مدّعي النبل” في العالم، ومحدثي النعمة الشرهين من سليلي الثورة الفرنسية، راجيا عودة “البدوي” ليخلص العالم من القتلة ومَن وراءهم مِن طغمة مالية متغولة.

وعدتُ أنا لأتذكر غزة وأستوقِف أبو عبيدة وعمر “بقلب منخطف وعينين باكيتين”:

مَنْ يَخلعُ الناسَ مِنْ جُذورِهِم

مَنْ يَدفعُهم مَوتاً إلى “أَرضِ العَدْوةِ”؟

فتذكّرتُ عُمَر

العربيَّ الذي يَسْحَبُ الأَفلاك بِزِمام جَمَلِهِ

قلتُ لنَفْسي: اشكُرْ عُمَر

فبدونه ما كنتَ لِتَقِفَ الآنَ

وما كانت القُدسُ لِتَلْتَمَّ على أَهلِها مِثْلَ زهرةٍ يَتفَتّحُ الناسُ في أَكنافِها

اشكُرِ البدويّ الذي كان يَسْحَبُ الحضارة بِزِمام جَمَلِه

اشكُرِ البدويّ الذي صَنَعَها بكلمات الضَّمير

اشكُرِ الذي فَتَحَ المَدينة ولم يُغلِقها

اشكُرِ الذي لم يُهَجِّر أَحداً ولم يَخلع أَحداً مِنْ جذوره

اشكُرْ عُمَر وهو بَعْدَ أَربعةَ عَشَرَ قَرْناً مِنْ مَوْتِهِ

ما زال يَمْنَحُ الأَمان لأَهل إيلياء

وما زال يَمْنَحُكَ الأَمان

اشكُرْهُ على مَقربةٍ مِنْ مذابح إيزابيلّا ومِنْ حريق الأَندلسيّينَ العظيم

اشكُرْه بقَلْبٍ مُنْخَطِفٍ وعينينِ باكيتين

وحاوِل أَنْ تَسْتَوقِفَهُ

وهو يَسْحَبُ الأَفلاك بِزِمامِ جَمَلِه

وإن كانت أبيات الشاعر المقدسي هذه هي ما طرق ذهني وأنا أقرأ سيرة عمر بقلم صبرينة لاي، وبييترانجيلو بوتافووكو الذي استحضر شاعر ألمانيا غوته المبشّر بعودة “البدوي” ليحرر العالم عندما يسود الطغيان، مؤكدا أنه سيكون “مسلما مطعّما بالمتوسطية” كما يقول وهو يحن لزمن الشعراء والفرسان.

وتشاركه بذلك صبرينة لاي في كتابها “عمر بن الخطاب-أمير المؤمنين” الذي كان أبلغ ما يمكن أن يصدر في هذه الأشهر، مذكرة إيانا، في عملها البحثي الضخم الذي يقع في 410 صفحات، أننا أولا وأخيرا أمام عربي قح كان ما قاده للإسلام هو تذوقه للشعر. لينجدل الجمال بالفروسية والنبل في تاريخنا، ويصبح معه استيقاف هذه الوجوه النبيلة واجبا جماليا لتطهير أعيننا من مشاهد الإبادة والقبح التي لا يزال يقترفها المنخلعون عن الإنسانية منذ أزيد من سنة، بل منذ 76 سنة وأكثر.

ومن أجل ذلك نلتقي اليوم بالدكتورة صبرينة لاي، وهي مفكرة إسلامية، ومترجمة وخبيرة في الحوار بين الثقافات، تنحدر من عائلة كاثوليكية متجذرة في الجنوب الإيطالي. اعتنقت الإسلام منذ ما يقارب 12 عاما في منتصف شهر رمضان، وهي منذ ذلك الحين لا تزال تسعى إلى تكريس فهم أفضل وأكثر توازنا عن الإسلام والمسلمين في إيطاليا وأوروبا.

درست الدكتورة صبرينة اللاتينية واليونانية والعبرية التوراتية والفلسفة الغربية القديمة لأكثر من عقد من الزمان، وحصلت على درجة الدكتوراه في الفلسفة اليونانية القديمة، وترجمت إلى الآن حوالي 75 كتابا إلى الإيطالية.

تتضمن هذه الكتب الترجمات الإيطالية الكاملة للكلاسيكيات الإسلامية، مثل صحيح البخاري وصحيح مسلم والأدب المفرد للبخاري وأعمال أدبية مختلفة وروايات وقصائد وقصص قصيرة وغيرها.

كما صدر لها 10 كتب من تأليفها، بما في ذلك “السيرة النبوية” التي نالت استحسانا واسعا، وسيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه باللغة الإيطالية. ومن المقرر أن تصدر لها سيرة الخليفة الأول أبو بكر الصديق نهاية هذه السنة.

ومن بين الأعمال الأخرى للدكتورة صبرينة باللغة الإيطالية “المجتمعات الدينية غير المسلمة في العالم الإسلامي: مقدمة تاريخية ودراسة أكاديمية للتاريخ المبكر”، وتطور المسيحية بعنوان “تاريخ موجز للمسيحية: من الأصل إلى مجمع خلقيدونية”.

ومن بين ترجماتها الإيطالية الأخرى المشهورة ترجمة “معاني القرآن الكريم” التي قام بها عبد الله يوسف علي عام 1934، وكتاب محمد إقبال “إعادة بناء الفكر الديني في الإسلام”، وغيرهما.

ومن بين الأبحاث التي تعمل عليها اليوم دراسة تتناول أول ترجمة لاتينية للقرآن الكريم الصادرة عام 1143 بعنوان “Lex Mahumet pseudoprophete”، وهي دراسة ستعززها رؤى لغوية ولاهوتية وفلسفية، تهدف إلى إظهار كيفية استيعاب هذه الترجمة وتعزيزها للعديد من المفاهيم الذاتية المسيحية في العصور الوسطى حول الإسلام والقرآن والنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكيف استمرت في التأثير على النهج الغربي اللاحق لترجمة القرآن الكريم.

تُكرّس الدكتورة صبرينة اليوم وقتها لبناء معرفة بين الأديان والتفاهم بين الديانات والثقافات المختلفة من خلال مشاريع بحثية وأدبية ودينية وثقافية مختلفة، وقد أشرفت وشاركت في الإشراف على عدد من الأطروحات الأكاديمية ومشاريع بحث متعلقة بموضوعات الحوار بين الأديان والثقافات.

ومن خلال مركز “تواصل الدولي للنشر والبحث والحوار” بروما الذي تديره، تبذل هي وزملاؤها جهودا حثيثة لإعادة بناء خطاب إسلامي متجذر في مفاهيم التسامح والمعرفة والأصالة، بهدف وضع الإسلام ضمن الفضاء العام متعدد الثقافات في أوروبا على اعتباره دين الحب العالمي والرحمة والعدالة.

  • نلاحظ من خلال هذه النبذة عنك وعن إصداراتك صفة تشتركين بها على نحو لافت مع الباحثين والكُتاب الذين نعرفهم من معتنقي الإسلام في إيطاليا، وهي صفة الموسوعية.
    فأنت تكتبين في الفلسفة الحديثة والقديمة، والشعر اللاتيني واليوناني والإيطالي، والأدب، والترجمة، والدراسات الثقافية، والصوفية، وأيضا دراسات شبه القارة الهندية. كيف تتنقلين بين مجالات المعرفة المختلفة هذه؟ وهل اعتناقك الإسلام هو ما وسّع مداركك الفكرية والوجدانية، أم أن آفاقك الفكرية الرحبة ومرونتك العقلية هي ما دفعك لاعتناق الإسلام؟

لقائي مع الإسلام بمعناه الواسع، ليس على اعتباره “إيمانا” فحسب وإنما بمفهومه الحضاري، لعب بالتأكيد دورا أساسيا في توسيع اهتماماتي الفكرية. ويجب أن أعترف أنه نتيجة للتعليم الكلاسيكي والحديث الذي تلقيته والمفاهيم التي اكتسبتها في سياق الدراسات الفلسفية والتاريخية التي أجريتها، طورتُ عقلا نقديا ومنفتحا، لكنه كان يميل إلى التعاطي مع كل ما يتعلق بالعالم الإسلامي، في الماضي والحاضر، كأنه كتلة واحدة وعلى نحو غير نقدي.

وربما لأن اهتمامي الفكري كان يتركز بشكل أساسي على تاريخ الفكر الغربي بمختلف تجلياته، كنت أعتقد دون أن وعي أن الإسلام مرادف للانقلاب والإنكار الكامل للمعتقد والإرث الفلسفي والعلمي الأوروبي برمته.

ولكن كشفت لي الدراسة المعمقة والخالية من التحيز أنه، وبعيدا عن الصراع السياسي بين العالمين الغربي والإسلامي، كان ثمة تبادل مثمر على المستوى الفلسفي والعلمي والفني بين العالمين، وقد ألهمَت جوانب عدة من الحضارة الإسلامية وعززت ولادة أوروبا جديدة بعيدا عن الظلامية الدينية التي سقطت فيها خلال العصور الوسطى.

وبسبب هذا الثراء الذي يحفّ التاريخ الإسلامي، يكون من الطبيعي تماما أن ينعكس على الاهتمامات الفكرية للباحث المسلم “المعاصر” كل هذا الاتساع والتنوع والتلوينات التي تطبع تاريخنا، ولهذا السبب أعتقد أن معتنقي الإسلام يملكون أداة مهمة تجعلهم يشكّلون همزة وصل بين العالم الغربي والعالم الإسلامي، وهم من يتحدث في الكثير من الحالات لغتين دينيتن وثقافيتين معا.

هذه المعرفة تجعلهم قادرين فعليا على استحضار أولئك العلماء المسلمين الذين كرسوا أنفسهم لمختلف مجالات المعرفة وأضاؤوا العالم بحضارتهم البديعة. أما فيما يتعلق بالشق الثاني من السؤال، أي فيما إذا كان انفتاحي الذهني قد قادني إلى اعتناق الإسلام أم العكس، فما يمكنني ببساطة الإجابة به هو أن “المعرفة” يمكن اكتسابها بحرية وبشكل مستقل، لكن “الإيمان” هو عطيّة إلهية قد تتجاوز في بعض الأحيان المنطق البشري وإرادتنا.

ومع ذلك، أعتقد أنه بدون إمكانية التعرف على الوحي القرآني وحياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لم أكن لأتمكن من الاقتراب من الإيمان ولو عن نحو ضئيل، ومن ثم فإن المعرفة هي الشرط الذي لا غنى عنه للإيمان، وبدونها قد يصبح أي إيمان هو محض خرافة.

  • حتى نفصّل أكثر في مشروعك الفكري الرحب، نسجّل ترجمتك للعديد من كتب العلوم الإسلامية إلى اللغة الإيطالية، ككتب الحديث، والمؤلفات الصوفية، بالإضافة إلى ترجمتكِ صحيح البخاري بأجزائه التسعة، وصحيح مسلم بأجزائه السبعة، كما صدرت لك عام 2020 ترجمة كتاب “مقاصد الشريعة كفلسفة للتشريع الإسلامي” لجاسر عودة. حدّثينا عن مشروعك في ترجمة كتب العلوم الإسلامية، الكلاسيكية منها والمعاصرة.

في العالم الغربي، يُظهر الباحثون من مختلف التخصصات اهتماما تفصيليا بالجوانب الأكثر هامشية لموضوع دراستهم، مؤمنين بأن الطبيعة العلمية للبحث تكمن على وجه التحديد في الدقة التي يتم بها تحليل ووزن البيانات المختلفة المتاحة.

ولا يتم تطبيق هذا المنهج في المجال العلمي البحت فحسب، بل أيضا في مجال العلوم الإنسانية. ومع ذلك، عندما يكون موضوع البحث هو “الإسلام”، يتم تجاهل النماذج التي تقوم على هذا البحث العلمي بشكل كامل، و”يتخلى” الباحث -إن جاز التعبير- عن تأثير الأحكام المسبقة والخصوصيات ذات الطبيعة المختلفة، كما أثبت ذلك على نطاق واسع إدوارد سعيد في دراسته الكلاسيكية للاستشراق.

وبسبب هذا الوضع، مع الأسف، تفتقر البانوراما الفكرية الأوروبية والإيطالية على وجه الخصوص إلى الأدوات الأساسية التي تمكّنها من تناول دراسة الإسلام دون خلفيات مشوّهة. ومن خلال كتبي وترجماتي، وبشكل عام جميع الأعمال التي تصدر عن مؤسسة تواصل الدولية، أعمل على سد هذا الافتقار للموضوعية والنزاهة الفكرية في البحث الإسلامي في إيطاليا.

لذا، لا بد من أجل فتح الطريق أمام المجتمع الإسلامي الأوروبي نحو مستقبل مزدهر للجميع، مسلمين وغير مسلمين، التحرك على جبهتين: إدراك كوننا مجتمعا عالميا ديناميكيا منفتحا على العالم من جهة، وتنمية الشغف بمعرفة ودراسة المصادر الإسلامية الأساسية بامتياز، أي القرآن الكريم والسنة النبوية.

ولهذا السبب ركزت اهتمامي على دراسة وإنتاج الأعمال التي يكون الإسلام موضوعها الرئيسي. ففي الإسلام، تمثل المعرفة والدراسة “واجبا دينيا”، لأن حب المعرفة هو انعكاس لمحبة الله الذي “عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ، عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ”.

والتعريف بمختلف جوانب الحضارة الإسلامية من منظور إسلامي يعني في نهاية المطاف العمل من أجل السلام والوئام بين الشعوب. الإيمان يأتي من الله، لكن التعريف بكلمته هي أمر واجب على كل مؤمن.

  • عام 2020 أيضا صدر لك كتاب بعنوان “المسيحية من الأصول إلى مجمع خلقيدونية”، وهو مؤلَّف يؤرخ لستة قرون من المسيحية، ويشرح خط الاستمرارية التاريخية بين التبشير بيسوع الناصري وبداية ظهور الإسلام في الجزيرة العربية. ما الجديد الذي تطرحينه في كتابك عن هذا الموضوع؟

حاولت في هذا العمل تتبع خط الاستمرارية بين ظهور “المسيحية” في الأرض المقدسة، ومجيء الرسالة النبوية والرسولية للرسول محمد صلى الله عليه وسلم في شبه الجزيرة العربية. وهو عمل تاريخي بحت يسعى إلى إعادة بناء الأحداث المتناوبة التي أدت إلى الانفصال بين جماعة ما يسمى “اليهود المسيحيين” و”المسيحيين الأمميين”.

بالنسبة للجماعة الأولى، فقد اختفت من طيات التاريخ إثر الثورة اليهودية التي اندلعت سنة 70م وأدت إلى تدمير هيكل القدس، والهزيمة النهائية لحركة المقاومة بقيادة شمعون بار كوخبا عام 135م. وقد كان اليهود المسيحيون موحدين، يؤمنون بإله واحد، ويتبعون الشريعة الموسوية، ويعترفون بيسوع الناصري بأنه “المسيح”.

وبما أن المسيحية التي خرجت منتصرة هي المسيحية ذات الأصول البولُسية و”الأممية” المؤسسة على فكرة الثالوث، فإن معرفتنا المتعلقة باليهود المسيحيين مجتزأة وغالبا ما تتطلب قراءة دقيقة لتفسيرها، حيث إن معظم المراجع حاضرة في أعمال آباء الكنيسة.

وفي كتابي أفترض أن الإشارة في التلمود إلى “المينيم” وما يسمى بدعة “المينوث” يمكن إرجاعها إلى اليهود المسيحيين. ولفظ “مين” المشتق من جذر “من” يدل على من “يكذب” أو تثبت خيانته -بحسب تفسير أحد العلماء- لطبيعة التحالف بين الله وإسرائيل كما هو مفهوم في اليهودية.

وتخبرنا المصادر الموجودة في التلمود أن المينيم، رغم دعمهم لهذه المواقف الهرطقية، فقد استمروا في التردد على الكنيس والمشاركة في أعمال العبادة، معتبرين أنفسهم جزءا من الشعب اليهودي. ولهذا السبب، في رأي الحاخامات، كان من الضروري التعرف إليهم ومن ثم طردهم من المجتمع، حتى لا يعودوا قادرين على نشر بدعتهم الخبيثة.

يبدو إذن أن المينيم استمروا في اعتبار أنفسهم جزءا من الشعب اليهودي، في حين أن ممثلي اليهودية الحاخامية الناشئة آنذاك لم يكونوا على نفس الرأي، بل اعتقدوا أنهم يضرون بحماية الاستمرارية التاريخية للمجتمع.

من خلال إعادة بناء البيانات المتاحة لطبيعة محتوى الإنجيل المفقود باللغة العبرية، والذي تمت الإشارة إليه في العديد من المصادر المسيحية اللاحقة، افترضتُ أنه يمكن التعرف إليه على أنه كتاب باللغة العبرية قرأه بدقة المينيم (اليهود المسيحيون)، الذين يطلق عليهم في التلمود اسم “جيليونيم”.

وتقودنا المصادر التاريخية اللاحقة إلى افتراض أن اليهود المسيحيين، الذين أضعفتهم الطائفة اليهودية ونبذتهم تماما، وجدوا ملجأ في شبه الجزيرة العربية، مختبئين بين المسيحيين النساطرة. ومن ثم فإن خط الاستمرارية بين التبشير بيسوع الناصري ومجيء النبي محمد صلى الله عليه وسلم يمكن توضيحه من خلال الإشارات الموجودة في سيرة ابن إسحاق فيما يتعلق بالنبوءة المسيحانية التي شهدتها قبائل يثرب اليهودية، من خلال ورقة بن نوفل والراهب بحيرى الذي تعرف إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم من “ختم النبوة”.

بمعنى آخر، كان اليهود المسيحيون ينتظرون “النبي” المشار إليه أيضا في سفر التكوين، والذي جاء فيه: “لا يزولُ الصَّولجانُ مِنْ يَهوذا ولا عصا السُّلطانِ مِنْ صُلْبِهِ، إلى أنْ يتَبوَّأَ في شيلُوه‌ مَنْ لَه طاعةُ الشُّعوبِ “. وفي العبرية، شيلوه من شالوخ (تُترجم إلى نبي)، واعتقادي أنه يمكن أن تنسب إلى شخص النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

  • حتى لا نبتعد كثيرا عن هذا المبحث، كان من اللافت في قائمة المراجع التي استندتِ إليها في عملك الأخير “عمر بن الخطاب” مؤلفات رصينة عديدة لكتّاب يهود وحاخامات تحيل إلى تاريخ اليهود في المنطقة العربية وتثبت ما ورد في كتب التراث العربي عن طبيعة العلاقة بين العرب واليهود في شبه الجزيرة العربية قبل نزول الوحي.
    توقفتُ عند هذا الملمح في عملك وأنا أذكر أكاديمي إيطالي زعم قبل سنوات قليلة ضمن كلام مرسل في أحد مؤلّفاته دون الاستناد لأي مرجع أن “العرب قبل البعثة كانوا يغارون من اليهود لأن لهم كتابا مقدسا بينما هم لا يملكون كتابا”.
    ما أهمية التدوين والكتابة من أجل دحض مزاعم الاستشراق الجديد الذي لا يزال يعشش في الأكاديميا الإيطالية؟ وهل تعتقدين أن المعركة متكافئة بين الإصدارات التي تقف وراءها الجامعة بكل الدعم الذي تتهيأ عليه، والإصدارات التي تقف وراءها المراكز الثقافية الصغيرة على غرار “مركز تواصل الدولي للنشر والأبحاث والحوار” والذي تصدر عنه مؤلفاتك بروما؟

من المؤكد أن المنشورات المدعومة أكاديميا تبدو كأنها تتمتع بـ”سلطة معرفية” أكبر من الأدبيات التي تنتجها المراكز الثقافية الصغيرة. أستخدم الفعل “يبدو” لأنني أعتقد أن الإشكالية إذا ما تم فحصها من زاوية أخرى يمكن أن تأخذ دلالات مختلفة.

لذلك، سيستدعي حجاجي مقدمة منطقية: تهدف المنشورات الأكاديمية، وخاصة تلك المتعلقة بموضوعات “حساسة” مثل الإسلام، إلى تعزيز “نظرة عن العالم” تعكس بالدرجة الأولى اهتمامات محددة تتجاوز في معظم الحالات المجال العلمي وتنتقل إلى المجال “السياسي” البحت. إن العديد من الأحداث المتعلقة بالعلاقة بين المسلمين واليهود في شبه الجزيرة العربية يتم تفسيرها مع الأسف على ضوء التاريخ المعاصر من خلال زاويتين.

الزاوية الأولى تقترح قراءة استرجاعية للصراع بين العرب واليهود الذي يفترض أنه بدأ في زمن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة. ومن يؤيد وجهة النظر هذه يفسر هذه العلاقة على أنها نوع من “صراع الحضارات قبل الأوان”.

أما المنظور الثاني فيقوم على فرضية امتلاك العلماء معرفة نهائية وكاملة لطبيعة اليهودية التي كانت تُمارَس في شبه الجزيرة العربية، ومن ثم للطبقة التحتية العرقية لما يسمى بالقبائل اليهودية في المدينة المنورة. وفي الواقع، فإن الفرضية التي يقوم عليها الرأي الثاني غير مكتملة في أحسن الأحوال، فنحن لا نملك بيانات تاريخية قطعية لا تقبل الجدل وتشهد على وجه التحديد ما إذا كانت القبائل اليهودية في المدينة المنورة هي من نسل يهود الشتات أم أنها قبائل عربية اعتنقت اليهودية.

وهذا يعني أننا لا نستطيع أن نحدد بدقة ما إذا كانت طبيعة الصراع بين “اليهود” والمسلمين دينية أم سياسية بحتة. عندما أشير إلى الطبيعة السياسية للصراع، أعني أنه يجب تحليل الصراع ضمن نفس الإطار التفسيري للعلاقات بين المسلمين والقبائل الوثنية. إن أهمية البحث والكتابة ونشر وجهة نظرنا -والتي أكرر أنها ليست نهائية على الإطلاق- ترتكز على حاجة المسلمين المعاصرين إلى أن يصبحوا فاعلين وأن يتوقفوا عن كونهم مفعولا بهم فقط.

ولسوء الحظ لاحظت أن هناك محاولة مستمرة لتهميش المفكرين المسلمين، ومن نافلة القول التأكيد على أن هذا لا يشمل أولئك الذين يتخلون عن هويتهم الثقافية والفكرية ليصبحوا مجرد أبواق داخل مجتمعهم للتيار المهيمن. ومن ثم فإن هذه العملية برمتها تهدف إلى تكريس نوع من “الاستعمار الفكري”. ولهذا السبب، أعتقد أن ثمة حاجة بالنسبة للمثقفين المسلمين والدارسين والقراء لخلق فضاء حر لهم يكون فيه المسلمون أنفسهم هم الداعمين له، وأن لا نكتفي بلعب دور المتفرجين.

  • عام 2021 صدرت لك ترجمة كتاب “دستور الأخلاق في القرآن” لمحمد عبد الله دراز، وهو عمل حاول فيه دراز أن يفيد عالما متعدد الثقافات بالنظام الأخلاقي الإسلامي من خلال منهج فلسفي وضعه لخير الإنسانية جمعاء وليس فقط للمسلمين، وقد خرج دراز بمفاهيم المسؤولية والجزاء والنية والدوافع من حدود التفسير إلى المنهج النظري المقارن والممارسة الأخلاقية. ما رؤيتك لهذا العمل من منظورك الشخصي؟

أعتقد أننا بحاجة في أيامنا هذه أكثر من أي وقت مضى إلى النهج الذي يعتمده هذا النص. والحقيقة أنه يمكن اعتبار النظام الأخلاقي الإسلامي عالميا، أي أن مبادئه الأساسية تمثل حجر الزاوية في الممارسة الأخلاقية التي يمكن استخدامها وتطبيقها، وذلك ليس حصريا في سياق ديني بحت.

لذا علينا أن نتأمل في التعاليم الأخلاقية القرآنية في ضوء التحديات التي يُدعى المسلمون إلى مواجهتها، ليس فقط في عالم متعدد الثقافات، بل -وفي المقام الأول- ضمن فضاء اجتماعي نحن نجازف بالبقاء فيه كمهمشين أو ببساطة كفئة يمارس عليها فعل “التسامح”. إن الدور العالمي للمجتمع الإسلامي يتطلب وجود مؤمنين داخل المجتمعات التي دُعوا للعيش والعمل فيها. وهنا لا تشكل الأخلاق القرآنية مجرد مرجعية ذاتية ولا حتى مجتمعية، بل تصبح ذات قيمة عالمية في الزمان والمكان، فقد جعل الله الأرض كلها للمسلمين مسجدا للصلاة عليها.

من خلال تفسير هذه الكلمات الرائعة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم في سياق يتجاوز البعد الطقسي البحت للمصطلح، ندرك أننا نحن المسلمين مدعوون لنشهد لإيماننا من خلال وجودنا المستمر في المجتمع. بمعنى آخر، يجب أن نكون مروجين لقيم الصدق والصبر والتضامن والاحترام والرحمة والسلام، ليس فقط مع بعضنا بعضا، بل مع جميع الكائنات.

ولنتذكر أن الله اختار البشر ليكونوا “خلفاءه”، أي أنهم حُمّلوا مسؤولية مقدسة تجاه الخليقة جمعاء. إن مسؤولية المسلمين، نتيجة الإيمان بالوحي القرآني، تحمل دلالات محددة تُذكّر بواجب إظهار التعاليم الواردة من الله سبحانه وتعالى والمجسدة في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وتفعيلها في العالم.

  • لديك أيضا العديد من الدراسات والكتب المنشورة عن الفكر الفلسفي الإسلامي في شبه القارة الهندية، وكذا دراسات عن محمد إقبال ومحمد أسد. لماذا تهتم فيلسوفة إيطالية من روما بعالم شرق آسيا؟ وكيف تقرئين الساحة الفكرية في الهند اليوم والهوية والسياسة القومية المتصاعدة حاليا؟

أعتقد أن الاهتمام بمختلف التعبيرات الفكرية والفنية والتاريخية للحضارة الإسلامية هو جزء من “الاحترام الواجب” الذي يدين به العالم المسلم إزاء الثراء الهائل وتنوع تعبيرات الحضارة الإسلامية على مستويات عدة. إن العلماء المسلمين -وأعتقد أن هذا ينطبق على كل مؤمن- ليس عليهم أن يقصروا اهتمامهم فقط وبشكل حصري على جوانب معينة من الحضارة الإسلامية التي تبدو أقرب إلى “ثقافة” الانتماء التي تخصهم.

أعتقد أن تعدد التجارب الفكرية والدينية التي يقدمها لنا التاريخ الإسلامي يجب أن تشكل نقطة انطلاق لتعزيز منظور يجعل من كل تعبير عن المجتمع الإسلامي يأخذ شكلا كونيا وعابرا للحدود الوطنية “إرثا” شرعيا لكل مؤمن. بمعنى آخر، مثلما يشعر كل مسلم بأنه ينتمي إلى مجتمع بلا حواجز وحدود في تفاعله الاجتماعي وممارسته الدينية، يجب علينا أن نبدأ في التفكير في التراث الثقافي الإسلامي بصفته مصدرا للإلهام العالمي الذي يضرب بجذوره في التاريخ، ويفتح لنا رؤية مستقبلية إذا ما أعيدت معايشته وأعيد تفسيره في ضوء التجربة الحديثة.

وقد قارن محمد إقبال في كتابه “إعادة بناء الفكر الديني في الإسلام”، الذي ترجمتُه إلى الإيطالية، بين الفلسفة الغربية والوحي القرآني. وكانت النتيجة برأيي خارقة للعادة، ولكن مع الأسف لم تُفهَم حيثياتها الكاملة. فمن خلال استشهاده البارع ببعض من الآيات القرآنية وتفسيرها، تمكّن إقبال من فتح منظور جديد للفكر الفلسفي الغربي.

بمعنى آخر، من خلال تفسير بعض الآيات المنزلة، خاصة فيما يتعلق بفكرة “الخلق المستمر” و”مصير الموجودات”، قدم نقدا بنّاءً للغاية لبعض مفاهيم الميتافيزيقا الكلاسيكية المتعلقة بثبات الجوهر وإلى الطبيعة اللاتاريخية لكمال الوجود. أما بالنسبة لمحمد أسد، فأعتقد أنه من المؤسف أن أفكاره وأعماله في العصر المعاصر لم تُقيَّم كما تستحق. إن تجربته في اعتناق الإسلام والسنوات التي قضاها في شبه الجزيرة العربية وحبه للحضارة العربية الإسلامية تمثل مصدرا مستمرا للإلهام.

وأما سنوات نضجه، ودراساته حول القرآن والتاريخ والفكر السياسي الإسلامي، فيمكن أن تكون مصدر إلهام في سياق النقاش المتعلق بالعديد من القضايا ذات الأهمية الحاسمة للمجتمع الإسلامي، وخاصة في الغرب. وقد قررت بعد الانتهاء من سيرة أبي بكر الصديق أن أتفرغ لكتابة سلسلة من الدراسات القصيرة التي ستكون مخصصة لحياة محمد أسد وبعض الجوانب من فكره.

  • في كتابك الأخير “عمر بن الخطاب-أمير المؤمنين” استشهدتِ بوقائع من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أحلتِنا إلى السيرة النبوية التي صدرت لك بالإيطالية عام 2022 تحت عنوان “محمد رسول الله”.
    ما الزاوية التي ركزت عليها في السيرة النبوية بالإيطالية، خصوصا أننا نرصد بشكل دوري إصدارات في السيرة النبوية بالإيطالية لكنها تكون عادة مترجمة. هل تعتقدين أن القارئ الإيطالي/الغربي قد تهمه جوانب معينة في السيرة النبوية (قد لا تكون هي بالضرورة ما يثير اهتمام القارئ العربي بشكل خاص) لذا توجّب أن يكون كاتب السيرة النبوية في كل لغة من أهل البلد حتى يركّز على الملامح التي تهم جمهوره؟

ما حفزني لكتابة سيرة جديدة للنبي صلى الله عليه وسلم عوامل عدة. أولها، شعوري بضرورة تبديد الكثير من الأحكام المسبقة والشكوك الموجودة في أذهان الغربيين بشكل عام، والإيطاليين بشكل خاص، فيما يتعلق بالعديد من جوانب حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

أثناء كتابة النص، وبالعودة المستمرة إلى المصادر الكلاسيكية والمعترف بها عالميا ضمن المرجعية السنية، حاولت تقديم الشخصية التاريخية للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ضمن تاريخ الوحي الإلهي للبشر. بمعنى آخر، حاولت تقديم النبي محمد صلى الله عليه وسلم للقراء غير المسلمين كشخصية تاريخية وكرسول من الله، ومن أجل تحقيق ذلك، خصصت مساحة كبيرة للإشارة إلى ممارسات النبي صلى الله عليه وسلم التي تدل على أخلاقه السامية وقوته وشجاعته ورحمته.

ولفتُّ في الوقت نفسه إلى العديد من آيات القرآن الكريم التي تساعد في تفسير بعض الأحداث في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. لقد حاولت استخدام السيرة النبوية لتعريف القارئ، ليس فقط بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم، بل أيضا بمضمون الوحي نفسه. إن تعاليم القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم لها طابع عالمي وفوق تاريخي، ولكن حتى يتم تقديرها وفهمها في جوهرها وفي صميم قيمتها الأخلاقية، فإنها تستدعي إعادة تقييمها وإعادة طرحها وإعادة تفسيرها باستمرار من أجل جعلها قابلة للاستخدام ضمن سياق محدد ليس لغويا فقط، بل مختلف ثقافيا في الغالب.

يمكن تفسير السيرة النبوية و”قراءتها” على مستويات مختلفة، وأعتقد اعتقادا راسخا أنها يمكن أن تكون مصدر إلهام حتى لأولئك الذين لا يدينون بالإسلام. إن إرث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عالمي أيضا بهذا المعنى، فالتعاليم الأخلاقية التي تحث عليها سنته الشريفة يمكن مشاركتها فعليا حتى من قبل أولئك الذين لا يلتزمون بأي عقيدة أو يعتنقون أي دين.

ولذلك، فنحن المسلمين مدعوون لتفعيل النطاق العالمي للسنة النبوية الشريفة والتعاليم الواردة في القرآن الكريم في حياتنا. وقد قال الله تعالى في محكم تنزيله عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ”.

ولذلك، من واجب المؤمنين أن يعيشوا في العالم بكليّتهم، وأن يتجنبوا أي شكل من أشكال العزلة الذاتية، وعليهم إظهار “الرحمة” و”الإحسان” و”نبل النفس” في حياتهم اليومية وفي تفاعلاتهم مع المسلمين وغير المسلمين، وهي الأخلاق التي تعلمناها من نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم.

  • لفتني في عملك الأخير تركيزك على الملمح الديمقراطي في أسلوب حكم عمر بن الخطاب، وانحيازه الكامل في قراراته لمصلحة الشعب (بكل مكوناته من مسلمين ومسيحيين ويهود)، حيث شرحت مفهوم الجزية، وأن فوائده لم تكن تعود على المسلمين فقط، بالإضافة لتفصيلك في القرارات التي اتخذها عمر لمنع تكدس الثروة في يد فئة معينة، وتشجيع الأهالي على زراعة أراضيهم والاستفادة منها.
    هذه المقاربة تتعارض مع الصورة التي لا يزال يقدمها المستشرقون في إيطاليا عن الخلافة الإسلامية، بل أصبحوا لا يترددون مؤخرا في استخدام نعت “الإمبريالي” لوصف الحكم الإسلامي، محاولين خلق حالة من التماهي بين الحالة الاستعمارية التي أنتجتها العنصرية الغربية وتمركزها على نهب ثروات الدول المستعمرة كما لا يزال الحال في إفريقيا وبلدان عدة، والفتوحات الإسلامية. هل يمكن أن تفصلي لنا أكثر في هذا الجانب؟

لا يوجد ما هو أبعد من الإسلام عن الإمبريالية عندما نحلل بالتفصيل طبيعة إدارة أراضي ما يسمى “الخلافة الإسلامية”. لفهم معنى وطبيعة “الفتوحات” الإسلامية بشكل كامل، وخاصة في أعقاب وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وفي زمن حكم أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، لا بد من أن نكون على دراية بحالة المناطق الخاضعة لحكم الإمبراطوريتين البيزنطية والساسانية، فقد اتسمت هذه المحافظات بانعدام الاستقرار السياسي والتخلف الاقتصادي والاضطرابات الاجتماعية.

وترجع حالة عدم الاستقرار جزئيا إلى فترة الصراع الطويلة بين الفرس والبيزنطيين، والتي كان لها تأثير مدمر ليس فقط على الاقتصاد المحلي، ولكن أيضا على السكان المدنيين. علاوة على ذلك، أدى اضطهاد الأقليات الدينية إلى إضعاف بنية المجتمع والولاء لمركز السلطة السياسية. في الواقع، اتبعت الإمبراطورية البيزنطية سياسة عدوانية في فرض الأحادية الدينية، معتبرة أن بسط السيطرة الصارمة للأرثوذكسية ضروري لضمان استقرار الإمبراطورية.

لكن الحكومة الإسلامية، وفقا للروايات التاريخية المتوفرة والتي لا تأتي بالضرورة من مصادر إسلامية، لم تمارس أي شكل من أشكال الاستغلال عندما سيطرت على هذه الأراضي. وخلافا للممارسة الحربية للفرس والبيزنطيين، امتنع الجيش الإسلامي عن القيام بأي عمل من أعمال العنف تجاه السكان المدنيين وممتلكاتهم، ولم تتعرض الحقول المزروعة لأي دمار، ولم تُذبَح الحيوانات الأليفة ولا حتى سُلبت من أصحابها الشرعيين.

كما احترمت الحكومة الإسلامية بعد الفتح حقوق السكان، بما في ذلك حريتهم في الحفاظ على هويتهم الثقافية والدينية. وكانت الطوائف المسيحية المختلفة والأقلية اليهودية، التي كانت تتعرض في السابق للاضطهاد المستمر، في وضع خولها للاستفادة من الأمن والسلام الذي ضمنته الحكومة الإسلامية.

أما الجزية، فهي أبعد ما يكون عن كونها رمزا لإخضاع الشعوب التي دخلت تحت المظلة الإسلامية، بل كانت ببساطة تمثل شكلا من أشكال المساهمة الاقتصادية التي تم من خلالها إعفاء المجتمعات غير المسلمة من المشاركة النشطة في الدفاع عن الأرض. وقد حاولتُ في كتاب “الطوائف الدينية غير المسلمة في العالم الإسلامي: مقدمة تاريخية” أن أصف حالة المناطق التي أصبحت جزءا مما أحب تسميته “الكومنولث الإسلامي” من الناحيتين الاجتماعية والدينية.

وهو ما يقف على طرف النقيض من الرؤية التي تعتمدها الحكومات الإمبريالية، والتي تُخضع الشعوب والأراضي المحتلة للاستغلال المستمر، وتحرم السكان من حقهم في أي شكل من أشكال الحكم الذاتي، بينما أثبت تاريخ الكومنولث الإسلامي أن الإدارة اللامركزية للإقليم، والنظام الجبائي المعتدل، واعتماد سياسة دينية متسامحة؛ هي ما صنعت حضارة أضاءت عصرها من بغداد إلى قرطبة، بل أعادت للغرب نفسه تراثه الفلسفي والعلمي المفقود.

  • نوعية النصوص العربية التي عملت عليها طيلة سنوات تعطينا صورة واضحة عن مدى تمكنك من اللغة العربية، ولعل أكثر ما لفتني أنا شخصيا في كتابك الأخير من الزاوية اللغوية تعليقك ضمن أحد الهوامش على ترجمة اسم الله “الرحمن” باللغات الأوروبية، حيث ارتأيت ضرورة اقتراض الاسم بحرفيته من العربية وعدم البحث له عن مكافئ بأي لغة لأن العرب أساسا لم يكونوا يعرفون كلمة “رحمن” وهي كلمة أتى بها القرآن.
    واستشهدت بذلك على ما أتى من حوار بين الرسول صلى الله عليه وسلم وسهيل بن عمرو عند عقد صلح الحديبية. هل لك أن تتوسعي أكثر في هذه النقطة، خصوصا أننا نحن العرب المعاصرين، لابتعادنا عن لغة العرب لدى نزول الوحي وتعودنا على النص القرآني، لم نعد نشعر بالثورية اللغوية التي تكتنف النص القرآني (وهي التي دفعت عمر للإسلام، وهو المعروف بتذوقه للشعر)؟
    وهل لك أن تخبرينا عن علاقتك بالنص القرآني وكيف عمقتِ صلتك باللغة العربية حتى تصلي لهذه الدرجة من الرهافة في التناول، على الرغم من أنها ليست لغتك الأم؟

بالنسبة لشخص مثلي أتى من بيئة ثقافية ودينية غريبة عن العالم العربي، فإن دراسة لغة القرآن بعد اعتناق الإسلام مثّلت بالنسبة لي واجبا وتحديا في الوقت عينه. فهي واجبٌ يتأتى من الحاجة إلى تلاوة القرآن باللغة العربية أثناء الصلاة، وتحدي لأنني أعتقد أنه من الصعب جدا فهم النص القرآني من خلال “قراءة” بسيطة فحسب.

وأقول هذا بناء على تجربتي الشخصية، فالنص القرآني يختلف تماما في بنيته عن النص الإنجيلي، ولهذا السبب يعتبر وقعه قويا جدا على أولئك الذين نشؤوا وقد طوروا علاقة مختلفة مع النصوص المنزلة. وباعتقادي لا يمكن فهم الوحي القرآني دون اللجوء إلى التفسير.

ولهذا السبب توجهت إلى دراسة اللغة العربية، أي لتطوير فهم أعمق للنص. وقد كنت محظوظة لأن جزءا من تعليمي كان يعتمد على دراسة اللغات “القديمة”، اللاتينية واليونانية والعبرية، وقد ساعدني ذلك على تطوير عقلية ومنهجية تخص اللغة العربية.

وعندما يقوم المرء بدراسة معمقة للغة القرآنية، يفهم أن القرآن نص “حي”، بمعنى أنه من خلال العمق الكامن في اللغة العربية وطبيعة العلاقات الدلالية والنحوية بين المصطلحات المختلفة، يستطيع الدارس أن يلج عالما كامنا تحت سطح النص ثري بالمعاني والإحالات التي تساعد المؤمن على الارتباط بالنص المقدس على نحو ديناميكي، وكأن الآيات تعود وتتنزل مرة أخرى على المباشر أمام عينه.

علاوة على ذلك، هناك ترجمتان من أكثر الترجمات الأصلية لمعاني القرآن الكريم في القرن العشرين: “معاني القرآن الكريم” (الذي ترجمتُه إلى الإيطالية) لعبد الله يوسف علي (1934)، و”رسالة القرآن” (1980)، وهي كتب كانت ذات فائدة عظيمة بالنسبة لي في فهم النص المقدس بفضل المعرفة العميقة باللغة العربية لدى هذين المترجمين، بالإضافة إلى الرجوع المستمر إلى الأعمال التفسيرية للطبري والإمام الرازي والإمام القرطبي وابن كثير.

وهكذا من خلال الدراسة المعمقة للنص القرآني، مصحوبة بمقارنة مستمرة مع أهم الترجمات المتاحة، تمكنت من فهم معنى الرسالة القرآنية وقيمتها الأبدية في العالم المعاصر.

  • سأختم بسؤال قد يبدو جدليا يعيدنا إلى “صلح الحديبية” الذي استفضتِ في ذكر حيثياته في كتابك الأخير عن سيدنا عمر، وقد يكون مفتاح قراءة لإصدارك القادم عن سيدنا أبي بكر: هنا يبدو سيدنا عمر وكأنه يمثل ضمن دائرة مستشاري الرسول صلى الله عليه وسلم “جناح الصقور” -بالتعبير السياسي المستخدم في الديموقراطيات الغربية- بينما يمثل سيدنا أبو بكر الصدّيق “جناح الحمائم”.
    برأيك، وعلى ضوء الأحداث السياسية التي يعيشها العالم الإسلامي حاليا وحرب الإبادة على غزة والعدوان على لبنان، هل علينا اليوم أن نستدعي لحظة عمر أم لحظة أبي بكر؟

إذا ما تأملنا في السيرة النبوية بعناية نلاحظ أنه وفي اللحظات المختلفة التي واجه فيها المجتمع قرارات حاسمة ووُضع فيها أمام خيارات مصيرية، كان أبو بكر وعمر يقدمان حلولا تبدو ظاهريا متناقضة.

ومع ذلك، فإن الفحص المتأني للمصادر يوضح أن كلا الخليفتين المستقبليين ترك من خلال وجهات نظره المختلفة وحجاجه بشأنها نماذج سلوك يمكن أن تهتدي بها الأجيال القادمة وينبغي أن تتأملها بعمق. وبالعودة إلى صلح الحديبية، فبعد أن أظهر عمر اعتراضه عليه ذهب إلى أبي بكر وأبلغه بشكوكه وحيرته.

لكن الخليفة المستقبلي الأول أكد له مرة أخرى قوة إيمانه برسالة محمد صلى الله عليه وسلم. لقد كان أبو بكر يظهر دائما قدرة استثنائية على تجاوز المنطق “البشري” في إيمانه التام بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته.

ولهذا السبب بالتحديد، أي لهذه القدرة الأساسية على الاستلهام بهذه الطريقة العميقة من السنة النبوية، جرى اختياره ليكون الخليفة الأول. ومن المثير للاهتمام أن أبا بكر هو من كان أشد صرامة من عمر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.

ولننظر فقط إلى الشجاعة والإصرار التي أبداها أبو بكر في فتح الشام، مع أن المدينة كانت معرضة للخطر من الناحية الدفاعية، بالإضافة إلى اتخاذه القرار بقتال القبائل التي رفضت دفع الزكاة، وهما الحالتان التي ظهر عمر فيهما أكثر ميلا لـ”التصالحية”.

ولكن في الوقت نفسه، يجب ألا ننسى أن تدخل عمر السريع في اختيار خليفة للنبي صلى الله عليه وسلم هو ما ضمن انتخاب أبي بكر. وأعتقد أن اختيار عمر لقيادة المسلمين بعد أبي بكر يعود لقربه من الرسول صلى الله عليه وسلم ثم من أبي بكر، واستلهامه من الدروس المستقاة من تصرفاتهما وسلوكياتهما.

كل هذا جعل من عمر أمير المؤمنين المستقبلي، وأحد أعظم القادة الذين عرفهم التاريخ. ما أرمي إليه من خلال هذا الحجاج هو تعزيز المفهوم الذي بموجبه يُدعى المسلمون من خلاله إلى العمل قدر الإمكان بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وتعاليم القرآن.

فقد عمل صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، على الرغم من اختلاف أمزجتهم وشخصياتهم، بأقصى ما في وسعهم للحفاظ على المجتمع بأكمله، وحمايته، وتعزيز ازدهاره وتقدمه. وما نفتقر إليه نحن المعاصرين هو بالتحديد فكرة المجتمع هذه، إذ إننا فقدنا القدرة على جعل فكرة المجتمع هذه قابلة للتطبيق بالكامل على مستويات مختلفة، وهذا العجز هو المسؤول في رأيي عن كل الأزمات العميقة التي يواجهها العالم الإسلامي على جميع الصُّعُد.

لقد جاء في محكم التنزيل: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة وَسَطا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا» (البقرة: 143). المجتمع الإسلامي هو مجتمع الوساطة، هو المجتمع المدعو إلى الوحدة والانفتاح. وبعبارة أخرى، المجتمع الإسلامي هو مجتمع يفترض أن يكون كونيا.

ولكننا نسينا الوصية في “أن نكون شهداء على الناس”، وهذا ما جعلنا ضعفاء. إذا سألتني من بطل هذه “اللحظة”؟ سأجيب: دائما وفي كل الأحوال: الأمة. يجب أن نتحلى بالشجاعة، في مواجهة سيناريو الدمار الذي يتكشف أمام أعيننا، لنصبح مرة أخرى “شهودا” و”أمة وسطا” تعمل على صُعُد مختلفة من أجل حماية نفسها والحفاظ عليها لما في ذلك من مصلحة للعالم بأسره.

يجب ألا نفقد الأمل أبدا، ولكن يجب علينا أن نعمل بشجاعة وتصميم لحماية حقنا في العيش بكرامة وسلام. يجب ألا نكل أبدا من العمل بصفتنا مجتمع أمل شاهدا على الإيمان الذي يتجلى في رسالة نبي السلام والعدالة المرسلة للبشرية قاطبة.

المصدر : الجزيرة

Loading

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Show Buttons
Hide Buttons
Translate »