نوبل في الفيزياء 2024 كيف قام الذكاء الاصطناعي بمحاكاة دماغ الإنسان؟
قررت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم منح جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2024 للفيزيائيين جون جيه هوبفيلد من جامعة برينستون الأميركية وجيفري إي هينتون من جامعة تورنتو الكندية، وذلك تقديراً لاكتشافاتهما واختراعاتهما الأساسية التي ساهمت في تحسين تقنيات تعلم الآلة من خلال الشبكات العصبية الاصطناعية.
وبذلك، تذهب جائزة نوبل هذا العام إلى مجال الذكاء الاصطناعي، الذي أصبح جزءاً من حياتنا اليومية، بينما نواجه في الوقت نفسه مخاوف بشأن تأثيراته على وظائفنا وأمننا الإلكتروني، فضلاً عن سلامتنا في منازلنا بعد دخوله في مجالات السلاح. وقد شبه فريق من العلماء هذه اللحظة بلحظة أوبنهايمر، حيث يواجه العالم اختراقاً علمياً جديداً قد يحمل آثاراً مدمرة.
لفهم الموضوع بشكل أعمق، دعنا نبدأ بمثال بسيط: حاسوبك المنزلي قادر على إجراء عمليات رياضية معقدة منذ سنوات، كما يمكنه تنظيم بيانات الموظفين في جداول، وتحرير الصور بناءً على توجيهاتك. لكن هل يستطيع قيادة سيارة أو التعرف على الأصوات والوجوه؟
الإجابة هي لا. هذا هو بالضبط ما يختص به الذكاء الاصطناعي، الذي يُعرف بأنه “قدرة الآلة على فهم البيانات المقدمة لها، ثم التعلم منها، وأخيرًا التصرف بناءً عليها لتحقيق هدف معين”.
الجانب المتعلق بـ”التعلم” يُعتبر السمة الأساسية في عالم الذكاء الاصطناعي. لنأخذ على سبيل المثال التعرف على الحروف. يمكنك بسهولة التعرف على الحرف “ج” بغض النظر عن اختلاف خط كاتبه، سواء كان مكتوبًا بحجم كبير أو صغير، أو إذا كانت النقطة أكبر أو أصغر، أو إذا كانت أي من أجزاء الحرف أكبر من الأخرى، إلا أنك ستظل تعرف أنه “ج”.
ومع ذلك، فإن هذا الأمر الذي يبدو بسيطًا للغاية هو في الواقع من القدرات المدهشة لدماغك، الذي يتكون من حوالي 86 مليار خلية عصبية، تتصل ببعضها البعض عبر عشرات التريليونات من التشابكات. وهذا ما يجعله قادرًا على التعلم بشكل ممتاز حول ما يجمع بين جميع أشكال الحرف “ج” المتنوعة التي قد تصادفها.
بالنسبة للحاسوب التقليدي، فإن قراءة حرف “ج” تتم في حالة واحدة فقط، وهي عندما يتطابق حرف الجيم المخزن في ذاكرته مع نماذج سابقة متعددة. لكن تقنيات تعلم الآلة تتيح للذكاء الاصطناعي، من خلال تزويده بملايين، بل مليارات من حروف “ج” المكتوبة بطرق متنوعة، أن يستنتج قواعد إحصائية تجعله يتعرف على كل جيم تقريبًا كحرف “ج”، تمامًا كما تفعل أنت.
تقوم الآلة بتقييم كل ما يتعلق بحرف الجيم، بدءًا من تدرجات ألوان البكسلات ومجموع الألوان التي تمثلها الصورة الكاملة، وصولًا إلى زوايا الخطوط التي تساهم في تشكيل حرف “ج” وتلك التي لا تفعل. يتم ذلك من خلال تحليل إحصائي معقد، وليس عبر طبقة واحدة من التفكير، بل من خلال طبقات متراكبة تشبه في تعقيدها وتداخلها طبقات الخلايا العصبية في أدمغتنا.
يتم تطبيق نفس العملية لتحديد الوجوه. على سبيل المثال، يقوم هاتفك الذكي بتحديد بعض الخصائص المهمة لوجهك، مثل الشكل العام للوجه، وعمق تجويف العين، وطبيعة العين، وبروز الحواجب، وشكل الذقن، وغيرها. يقوم الذكاء الاصطناعي بتحويل هذه الخصائص إلى معايير وقوانين، مما يؤدي إلى نتائج إحصائية ترجح أن هذا الوجه هو وجهك وليس وجه شخص آخر.
تعلم الدماغ
لكن كيف يتمكن تعلم الآلة من اكتساب المهارات التي تشبه مهارات البشر؟ وما هي الطريقة التي يتعامل بها مع الأمور من منظور إحصائي؟
لنقم بجولة تاريخية في الأربعينيات من القرن الماضي، حيث بدأ الباحثون في استكشاف الرياضيات التي تشكل الأساس لشبكة الدماغ المكونة من الخلايا العصبية. وقد أضاف علم النفس بفضل فرضية عالم الأعصاب دونالد هيب، بُعدًا آخر إلى هذا اللغز، حيث تناولت فرضيته كيفية حدوث التعلم من خلال تعزيز الاتصالات بين الخلايا العصبية عندما تعمل معًا.
تعتبر فرضية دونالد هيب مفهومًا أساسيًا في علم الأعصاب، حيث تفسر كيفية حدوث عمليات مثل التعلم والذاكرة على مستوى الاتصالات العصبية. وقد اقترحت هذه الفرضية أن الخلايا العصبية التي تنشط معًا تتصل ببعضها البعض، مما يعني أنه عندما تعمل خليتان عصبيتان معًا بشكل متكرر ومستمر في أداء نفس المهمة، فإن الاتصال بينهما يتعزز.
مع مرور الوقت، يؤدي هذا التنشيط المتكرر إلى تغييرات هيكلية ووظيفية في التشابك العصبي، مما يعزز القدرة على ربط المحفزات أو الأحداث المختلفة، مثل الربط بين الصوت وإشارة بصرية. وعندما يحدث محفزان معًا بشكل متكرر، تصبح الدوائر العصبية التي تمثلهما أكثر ترابطًا. يحدث الشيء نفسه عند التعلم في المدرسة، حيث تتصل الشبكات العصبية لتكوين وجود تلك المعلومات بشكل ملموس في دماغك.
لقد كان لقاعدة هيب تأثير عميق على مجالي علم الأعصاب وعلم النفس، حيث قدمت إطارًا لفهم كيفية ترميز التعلم والذاكرة في الدماغ. بعبارة أخرى، اكتشف العلماء الطريقة التي يتم بها تخزين حرف “ج” في دماغك، إلى جانب كل ما تتعلمه.
شبكات هوبفيلد
تخيل أنك تحاول استحضار كلمة تعبر عن مفهوم معين ترغب في استخدامه في مقال تكتبه. هذه الكلمة تشير إلى نوع من التوتر في الأوساط البحثية. في البداية، تفكر في أن العلماء “يختلفون ويتفقون حول كذا”، ثم تبحث عن تعبير أكثر لطفًا، فتختار “يتجادلون”، لكنك تدرك أنها لا تعكس تمامًا ما يدور في ذهنك. بعد ذلك، تصل إلى عبارة “يشتبكون بنشاط في البحث حول كذا”، وتجد أنها الأقرب لما تعنيه، فتقرر استخدامها في كتابتك.
تتعلق عملية البحث عن الكلمات المتشابهة بهدف العثور على الكلمة الصحيحة بمفهوم “الذاكرة الترابطية”، الذي اكتشفه جون هوبفيلد في عام 1982 استنادًا إلى أعمال هيب السابقة. يشير هذا المفهوم إلى قدرة الدماغ على إنشاء وتخزين واسترجاع الروابط بين المفاهيم أو المشاعر أو التجارب.
على سبيل المثال، يمكن أن يتجلى ذلك في تذكر وجه شخص ما مع اسمه المرتبط به، أو ربط أغنية معينة بذاكرة معينة، أو الربط بين مفهوم “الطبيب” و”المستشفى” و”الطب” و”الصحة”. غالبًا ما يتطلب تعلم مفردات جديدة ربط الكلمات الجديدة بكلمات مشابهة في الصوت أو ذات معاني متقاربة. وبالتالي، عندما يتم تنشيط جزء من المعلومات، يتم استحضار المحتوى المرتبط به بشكل تلقائي، مما يسهل عملية التذكر ويجعلها أكثر كفاءة. هذه العملية ضرورية لدمج المعرفة الجديدة واسترجاع المعلومات ذات الصلة.
استفاد هوبفيلد من خلفيته في الفيزياء لاستكشاف التحديات النظرية التي تطرحها الشبكات العصبية التي تتعلم بهذه الطريقة، واكتشف أنه يمكن محاكاة هذه الشبكات من خلال شبكات اصطناعية.
في عام 1980، ترك هوبفيلد منصبه في جامعة برينستون وانتقل للعمل في مجالي الكيمياء والأحياء في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا. هناك، حصل على إمكانية الوصول إلى موارد الحاسوب التي ساعدته في تطوير أفكاره حول الشبكات العصبية الحاسوبية التي تعمل بطريقة مشابهة لأدمغتنا.
تتكون الشبكة التي أنشأها هوبفيلد من عقد مترابطة ببعضها البعض من خلال اتصالات ذات قوى أو أوزان متفاوتة. يمكن لكل عقدة تخزين قيمة فردية (1 أو 0)، وتختلف هذه القيم بناءً على طبيعة العملية التي يتم تحليلها. على سبيل المثال، يمكن أن تكون وحدات البكسلات إما بيضاء أو سوداء.
في هذا السياق، تتعرض الشبكة بالكامل لإدخال معين، مثل صورة مثالية لحرف “ج”. في هذه الحالة، تقوم الشبكة بتعديل جميع وحداتها لتتوافق مع هذا الشكل. وعندما يتم عرض حرف “ج” آخر على الشبكة، فإنها تستطيع استرجاع الحرف الأول.
شبه هوبفيلد عملية البحث في الشبكة بالبحث عن حالة محفوظة سابقًا من خلال دحرجة كرة عبر مشهد يتضمن قممًا ووديانًا. إذا سقطت الكرة في أي نقطة من هذا المشهد، ستتدحرج نحو أقرب وادٍ وتتوقف هناك. وبالمثل، إذا تم تقديم نمط قريب من أحد الأنماط المحفوظة إلى الشبكة، ستستمر في التحرك حتى تصل إلى قاع الوادي، أي إلى أقرب نمط موجود في ذاكرتها.
شبكة هينتون
عندما طرح هوبفيلد أفكاره حول الذاكرة الترابطية، كان جيفري هينتون قد درس بالفعل علم النفس التجريبي والذكاء الاصطناعي، وكان يتساءل عما إذا كانت الآلات قادرة على تعلم معالجة الأنماط بطريقة مشابهة للبشر.
على سبيل المثال، إذا شاهد طفل صغير يبلغ من العمر خمس سنوات مجموعة من القطط والكلاب، فإنه سيتمكن من التمييز بينها بدقة. ومع ذلك، قبل ثلاث سنوات من ذلك، لم يكن لديه هذه القدرة، لكنه اكتسبها وأصبح بارعًا فيها نتيجة لتعرضه المتكرر للعديد من القطط والكلاب.
في تلك اللحظة، استحضر هينتون مفاهيم من مجال الفيزياء الإحصائية. على سبيل المثال، من الصعب أو حتى مستحيل تتبع جميع الجزيئات الصغيرة المنفصلة التي تشكل غازًا ما في حجرة صغيرة. ومع ذلك، يستطيع العلماء دراسة حركة هذا الغاز من خلال تحليل مكوناته بشكل جماعي لتحديد الخصائص العامة للغاز مثل الضغط ودرجة الحرارة.
من هنا، أدرك هينتون أنه يمكن تطبيق نفس التحليل على حالات أخرى (غير الغازات) التي تتواجد فيها المكونات الفردية معًا باستخدام الفيزياء الإحصائية، وحساب احتمالات حدوثها. وقد نقل هذا المفهوم إلى الشبكات العصبية الصناعية، حيث لا تحتاج الشبكة إلى دراسة كل عنصر منفصل في وجهك للتعرف عليه، بل يمكنها حساب الاحتمالات الإحصائية لكيفية تشكيل الوجه (أي وجه) واستنتاج أنه وجه.
تتطور دقة القدرات الإحصائية في إطار مفهوم الذاكرة الذي طوره هوبفيلد. فعندما تتعرض الشبكة العصبية الاصطناعية لمزيد من صور الوجوه، تقوم بتعديل قوانينها الإحصائية لتصبح أكثر دقة مع مرور الوقت. وقد تم نشر الطريقة التي اكتشفها هينتون في عام 1985 تحت مسمى “آلة بولتزمان”.
تستطيع آلة بولتزمان المدربة التعرف على السمات المألوفة في المعلومات التي لم تتعرض لها من قبل. تخيل أنك تقابل شقيق صديقك، حيث يمكنك أن تلاحظ على الفور أنهما أخوان بسبب وجود درجة من التشابه بينهما. وبالمثل، يمكن لآلة بولتزمان التعرف على مثال جديد تمامًا إذا كان ينتمي إلى فئة موجودة في بيانات التدريب الخاصة بها، وتمييزه عن المواد التي تختلف عنها.
بفضل جهودهما منذ ثمانينيات القرن العشرين وما تلاها، ساهم جون هوبفيلد وجيفري هينتون في تأسيس ثورة التعلم الآلي التي انطلقت حوالي عام 2010.
اليوم، يمكن للإصدارات الحديثة من الشبكات العصبية التي طوراها معالجة كميات هائلة من البيانات، مما يتيح تحقيق دقة مذهلة في التعلم المستقل عن البشر. ومع ذلك، يثير هذا الأمر تساؤلات حول مستقبلنا مع هذه التقنيات. نحن ندرك أنها مفيدة للغاية في مجالات مثل الفلك والطب والهندسة والتعليم، لكنها تُستخدم أيضًا في تطوير أسلحة تعتمد على الذكاء الاصطناعي، قادرة على تحليل البيانات في الوقت الحقيقي واتخاذ القرارات.
تشهد المجالات العسكرية في الوقت الراهن تطوراً مقلقاً في مجال الذكاء الاصطناعي. ومن أبرز المخاوف المتعلقة بذلك هي أنظمة الأسلحة المستقلة، التي تستطيع العمل دون تدخل بشري. تفتقر هذه الأنظمة إلى التوجيه البشري والرؤية الأخلاقية، وهما عنصران أساسيان في اتخاذ القرارات المتعلقة باستخدام القوة القاتلة.
لحظة أوبنهايمر
يشير مصطلح “لحظة أوبنهايمر” إلى تلك اللحظة الحاسمة التي يدرك فيها فرد أو حكومة أو مجموعة من العلماء العواقب الكارثية المحتملة لأفعال أو أفكار يعتزمون تنفيذها، خاصة في مجالات التقدم العلمي أو التكنولوجي أو العسكري. يعود هذا المفهوم إلى اللحظة التي قرر فيها الفيزيائي الأمريكي روبرت أوبنهايمر إجراء أول اختبار ناجح للقنبلة الذرية في يوليو 1945. وبعد أن شهد القوة التدميرية الهائلة للقنبلة، استحضر أوبنهايمر مقطعًا من “البهاغافاد غيتا” (الكتاب المقدس في الهندوسية) حيث قال: “الآن أصبح الموت مدمر العوالم”.
كانت “لحظة أوبنهايمر” هي اللحظة التي أدرك فيها بشكل كامل الإمكانيات الهائلة للدمار العالمي الذي تمثله الأسلحة النووية.
على الرغم من نجاح مشروع مانهاتن، إلا أنه أطلق سباق تسلح نووي لا زلنا نواجه تداعياته حتى اليوم. فعندما تصاعدت التوترات بين روسيا وحلف الناتو بسبب دخول القوات الروسية إلى أوكرانيا، وكذلك بين الصين والولايات المتحدة بسبب احتمال دخول الأخيرة إلى تايوان، بدأ الجميع في استشعار الحاجة إلى تعزيز ترساناتهم.
في عام 2023، شهد العالم زيادة جديدة في الإنفاق على الأسلحة النووية، حيث بلغ المبلغ 91.4 مليار دولار، وفقًا لتقرير حديث صادر عن الحملة الدولية لإلغاء الأسلحة النووية.
نحن الآن في مرحلة مشابهة فيما يتعلق بالأسلحة المستقلة التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي. إذ يدرك العلماء المتخصصون في هذا المجال أن لهذه الأسلحة تأثيرات سلبية على السلام العالمي، وأنها قد تفتح المجال لسباق تسلح غير مسبوق، مما يؤثر على الاقتصاد بشكل عام. كما يدركون أن هذه الأسلحة قد تؤدي إلى تصعيد النزاعات العالمية، مما قد ينتهي بحرب عالمية ثالثة، مما يجعلنا نواجه لحظة تشبه تلك التي شهدها العالم عند بداية الصراع النووي في الأربعينيات من القرن الماضي.
هل يمكننا تخطي مثل هذه اللحظة هذه المرة؟ للأسف، يبدو أن البعض لا يتعلم. ومن خلال نظرة سريعة على السباق المتسارع بين دول مثل الصين والولايات المتحدة، بالإضافة إلى العديد من الدول الأخرى، يتضح أن اللحظة التي سيغزو فيها الذكاء الاصطناعي ساحة الحرب أصبحت وشيكة بشكل مؤكد.
المصدر :مواقع إلكترونية