مملكة الشمس وتنقلاتها خلال النهار والليل في الأساطير المصرية.
في الحضارة المصرية القديمة، كانت الشمس تُعتبر رمزًا للحياة والطاقة والقوة، ولها دور محوري في الأساطير الدينية والفلسفية. كان المصريون القدماء يعتقدون أن الشمس تخوض رحلة يومية تعكس مراحل الحياة من الميلاد إلى الموت ثم البعث من جديد، كما أوضح الطيب عبد الله حسن، الخبير الأثري والمرشد السياحي في الأقصر.
وأشار الطيب إلى أن الشمس ارتبطت بثلاثة مظاهر رئيسية: “خپر”، الذي يرمز إلى الشروق والحياة الجديدة، و”رع”، الذي يمثل ذروة القوة في وقت الظهيرة، و”أتوم”، الذي يرمز إلى الغروب ونهاية اليوم.
تروي هذه المظاهر الثلاثة قصة مستمرة تتعلق بالخلق، الفناء، والبعث، وتتميز هذه الرحلة بأنها ليست مجرد دورة فلكية، بل تمثل رمزًا لفلسفة أعمق تعكس التوازن بين النور والظلام، والحياة والموت.
خپر: شروق الشمس وبداية الحياة
في الأساطير المصرية القديمة، يُعتبر “خپر” تجسيدًا لشروق الشمس وبداية الحياة. كانت الشمس عند الشروق تُعتبر كمولود جديد، مليئًا بالطاقة والدفء. هذا المولود الجديد، الذي يُمثل في “خپر”، هو رمز لعملية الخلق والإبداع. كلمة “خپر” مشتقة من الجذر المصري القديم “خپري”، الذي يعني “أن يكون” أو “أن يتحول”، مما يدل على قدرة الشمس على التجدد والبعث كل صباح.
يرتبط “خپر” عادةً بالخنفساء، ويعتبر رمزًا للحياة الجديدة والتحول. كان المصريون القدماء يعتقدون أن الخنفساء تجسد العملية السحرية لخلق الحياة من العدم. كما كان “خپر” يمثل شروق الشمس الذي يجلب الدفء والنور، وهو اللحظة التي يبدأ فيها الكون من جديد بعد ظلام الليل. كان ظهور الشمس عند الفجر رمزًا للأمل والتجدد، حيث اعتقد المصريون أن “خپر” يجدد الحياة في الكون ويعيد إحيائها مع كل شروق.
رع: قمة القوة في الظهيرة
مع ارتفاع الشمس في السماء، تصل إلى مرحلة الظهيرة، حيث تبلغ قوتها ذروتها تحت اسم “رع”. يُعتبر “رع” من أبرز الآلهة في الديانة المصرية القديمة، وهو إله الشمس الذي يهيمن على السماء والأرض. يجسد “رع” القوة المطلقة والطاقة الهائلة، إذ تُعتبر الظهيرة وقتًا تتجلى فيه شدة حرارة الشمس، مما يجعل الناس يخشون قوتها.
في هذه المرحلة، يُعبر “رع” عن الحياة في أوجها، حيث تكون الطاقة في أقصى مستوياتها. كان المصريون القدماء يرون في “رع” رمزًا للنور، بالإضافة إلى كونه تجسيدًا للقوة والسيطرة على الكون. كانت عبادة “رع” جزءًا لا يتجزأ من الحياة الدينية، حيث كان يُعتبر حاكم الكون وضابط النظام الطبيعي. وكانت الرحلة اليومية التي يقوم بها “رع” في السماء تُعتبر تعبيرًا عن قوة الطبيعة وأهميتها في الحفاظ على التوازن والنظام في العالم.
أتوم: غروب الشمس والنهاية المؤقتة
مع اقتراب الشمس من الغروب، تتحول صورتها إلى “أتوم”، إله الشمس الغاربة. كان “أتوم” يمثل نهاية مؤقتة ليوم مليء بالطاقة والنور، لكنه أيضًا كان رمزًا للانتقال إلى العالم السفلي. في لحظة الغروب، تختفي الشمس خلف الجبال وتغوص في أعماق الأرض لتبدأ رحلتها الليلية.
يرتبط “أتوم” بفكرة الفناء والاستعداد لمرحلة جديدة من الولادة، حيث إن غروب الشمس ليس نهاية دائمة، بل هو جزء من دورة مستمرة. تعكس هذه الدورة مفهوم البعث والقيامة الذي تؤمن به الديانة المصرية، حيث يرمز “أتوم” إلى انتهاء حياة اليوم والاستعداد للحياة الجديدة في الغد.
في الأساطير المصرية، تغرب الشمس لتختفي في العالم السفلي، حيث تواجه الأرواح الشريرة والقوى المظلمة. تعبر هذه المرحلة عن الصراع المستمر بين النور والظلام، ليعود “أتوم” في اليوم التالي في صورة “خپر”، ويبدأ رحلة جديدة.
رحلة الشمس الليلية: الصراع مع الظلام
عندما تغرب الشمس في هيئة “أتوم”، تبدأ رحلتها الليلية عبر العالم السفلي. في هذه المرحلة، تعبر الشمس نهر الليل، الذي كان يُعتقد أنه مليء بالأرواح الشريرة والظلمات. كان المصريون القدماء يؤمنون بأن الشمس تواجه قوى الشر والتدمير خلال الليل، ورغم هذه التحديات، فإنها دائمًا ما تتمكن من الانتصار والعودة في الفجر على هيئة “خپر”.
هذا الصراع بين النور والظلام يعكس مفهوم التوازن الكوني الذي كان يؤمن به المصريون القدماء. انتصار الشمس كل يوم كان يعني انتصار الحياة والنظام على الفوضى والموت. لذلك، كانت رحلة الشمس الليلية تُعتبر جزءًا أساسيًا من فلسفة المصريين حول الحياة والموت والبعث.
دور الشمس في الحياة اليومية والدينية
لم تكن الشمس في مصر القديمة مجرد جرم سماوي، بل كانت تحتل مكانة بارزة في الحياة اليومية والدينية. كانت تمثل النظام والقوة والقدرة الإلهية على التحكم في الكون. كانت عبادة الشمس من أبرز العبادات في تلك الفترة، حيث تم تشييد العديد من المعابد الكبرى مثل معبد الكرنك وأبو سمبل تكريمًا للإله “رع” والشمس.
علاوة على ذلك، كانت الشمس تلعب دورًا محوريًا في الطقوس الجنائزية، حيث كان يُعتقد أن الموتى سيرافقون الشمس في رحلتها الليلية إلى العالم الآخر. هذا الاعتقاد في البعث بعد الموت كان يعكس فلسفة المصريين حول دورة الحياة والموت، والتي تجسدت في رحلة الشمس اليومية.
تجسد رحلة الشمس في الأساطير المصرية القديمة نموذجًا فلسفيًا عميقًا يعكس طبيعة الحياة والموت والبعث. تبدأ هذه الرحلة مع “خپر” الذي يمثل الشروق وبداية الحياة، ثم تصل إلى “رع” في أوج قوته عند الظهيرة، لتختتم بـ “أتوم” الذي يجسد الغروب والاستعداد لعالم آخر. تعكس هذه الرموز دورة مستمرة لا نهاية لها. كان المصريون القدماء يعتبرون هذه الدورة تجسيدًا لنظام الكون، حيث كانت الشمس بالنسبة لهم ليست مجرد مصدر للضوء والحرارة، بل رمزًا للحياة والتوازن الكوني.