ثقافة

دليل لتحقيق الحكم الرشيد

أصدر رئيس الوزراء البريطاني السابق، توني بلير (71 عاماً)، كتاباً جديداً بعنوان “عن القيادة: دروس للقرن الحادي والعشرين” (2024)، حيث يشارك فيه النصائح التي كان يتمنى لو عرفها عندما تولى المنصب التنفيذي الأهم في المملكة المتحدة عام 1997.

ويشير بعض النقاد في الصحف البريطانية إلى أن توقيت إصدار الكتاب قد يكون بمثابة خطوة نحو إعادة تأهيل سياسي للزعيم السابق لحزب العمال، خاصة مع عودة حزبه المظفرة إلى 10 داونينغ ستريت – مقر رئاسة الحكومة البريطانية في لندن – بعد أكثر من عقد ونصف من هيمنة حكومات حزب المحافظين على السلطة، وتولي كير ستارمر، أحد أبرز تلاميذه في خط الديمقراطية الاجتماعية الجديدة، منصب رئيس الوزراء.

ترك بلير، الذي انتُخب لولايتين متتاليتين بشعبية غير مسبوقة في ظل ركود سياسي أعقب أداء حكومات المحافظين في التسعينات، السلطة بسمعة مختلطة. فقد اعتبرت بعض الجهات في اليمين أن بلير قد دفع بمصالح بريطانيا إلى الأمام، وحقق “إصلاحات” في مجالات متعددة، وساهم في استقرار النظام خلال فترة الارتباك التي تلت مقتل الليدي ديانا سبنسر. في المقابل، لقي بلير انتقادات شديدة، خاصة من قبل اليسار، بسبب قراره الذي يتعارض مع التوجهات الشعبية بالانضمام إلى الغزو الذي قادته الولايات المتحدة ضد العراق في عام 2003، بالإضافة إلى انحياز حكومته العمالية لمصالح القطاع الخاص في مجالات التعليم والصحة والنقل العام.

بغض النظر عن الجدل القائم حول إرث هذا الرجل، فإن خبرته الطويلة نسبياً في إدارة دولة محورية في النظام العالمي مثل بريطانيا، وعلاقاته القوية مع الإدارات الأمريكية، بالإضافة إلى شبكة العلاقات الدولية الواسعة التي أسسها بعد مغادرته السلطة من خلال مؤسسته الاستشارية، تفرض على كل مهتم بالسياسة والحكم الرشيد والإدارة أن يستمع لما قد يطرحه حول فن القيادة، الذي يعد غامضاً وخطيراً ومهماً للغاية.

تُعتبر المقدمة، التي تُعدّ من أقوى أجزاء الكتاب، بمثابة تبرير واقعي للغاية للفوائد المحتملة من قراءة نصوص الأشخاص الذين تولوا أدواراً قيادية بطرق مختلفة، سواء في إدارة الدول أو الشركات والمنظمات. كما يشير بلير، لا ينجح أحد في مهمته لمجرد كونه قائداً، بل يتطلب الأمر العمل الجاد، والاهتمام بالتنفيذ، والتفكير العميق عند اتخاذ القرارات، بالإضافة إلى الفضول والرغبة في المعرفة، ومقاومة الغطرسة من خلال تحقيق توازن دقيق بين الثقة بالنفس والتواضع. وعلى عكس العديد من المهن في العصر الحديث التي تتطلب تخصصات وتأهيلاً معيناً، فإن القيادة – على الأقل في المجال السياسي – لا تحتاج إلى مؤهلات رسمية محددة أو خبرة سابقة أو تدريب مُعد مسبقاً. لذا، فإن الاطلاع على تجارب القادة من خلال كتبهم ومذكراتهم يُعتبر من المصادر القليلة المتاحة لفهم هذه الظاهرة المعقدة.

يتناول بلير في كتابه “عن القيادة” مجموعة من الأسئلة المهمة المتعلقة بالسمات والمهارات وطرق التفكير التي تميز القائد الناجح. ويقدم من خلال تجربته الشخصية نصائح للقادة حول ما ينبغي عليهم القيام به أو تجنبه لتحقيق مكانة دائمة في صفحات التاريخ، بدلاً من أن يكونوا مجرد أسماء عابرة في سجلات الزوار. ومع ذلك، فإن من لديهم خبرة سابقة في المناصب القيادية، خاصة في الشركات الكبرى، قد يجدون أن العديد من الأفكار المطروحة في الكتاب تكرر بعض الأساسيات المعروفة. فمعظم القادة يدركون أهمية وجود خطة والالتزام بها، وإدارة الوقت بفعالية، وتحديد الأولويات، وفهم الفرق بين التكتيك والاستراتيجية، وتفضيل السياسات التوجيهية على الخطابية، والتفاوض بكفاءة، والاستعداد لاتخاذ قرارات قد لا تكون شعبية، ومتابعة التنفيذ حتى النهاية.

بالطبع، يحتاج القادة إلى الاستماع إلى ما يمكن أن يساعدهم في مواجهة التحديات المتعددة التي ستظهر عند بدء مهامهم، وهو ما لا يقدمه بلير بشكل كافٍ في معظم فصول كتابه. ومع ذلك، يتم تعويض ذلك بشكل مرضٍ في الأجزاء التي تتناول نصائحه حول كيفية التعامل مع الأعباء الشخصية للقيادة، وإدارة البيروقراطية، ومواجهة ضغوط وسائل التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى أهمية تطوير المناطق النائية، وتجنب الغطرسة، ومعرفة الوقت المناسب للانسحاب.

تُعتبر حرب العراق والبحث الفاشل عن أسلحة دمار شامل، التي زعم الأميركيون أن بغداد تمتلكها، من أكثر القضايا إثارة للجدل خلال فترة رئاسة بلير للوزراء. ورغم ذلك، لم يكن لديه الكثير ليقوله حول الدروس التي يمكن أن يستفيد منها القادة من تلك التجربة المكلفة إنسانياً. اكتفى بلير بالإشارة إلى أنه تناول هذا الموضوع في عدة مناسبات، بما في ذلك في مذكراته المنشورة بعنوان “رحلة” (2010)، حيث ذكر أنه “لا يمكن إقناع شخص لا يرغب في الاقتناع”. ومع ذلك، لم يتردد في توجيه انتقادات حادة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في عدة فصول من الكتاب، بسبب غزوه لأوكرانيا، معتبراً أن ذلك لا يتناسب مع سلوك دولة ديمقراطية متحضرة.

نصيحة بلير الوحيدة للقادة هي أن يحرصوا على إرثهم أثناء فترة قيادتهم، حتى لا يتم تعريفهم لاحقاً من خلال قضية واحدة، كما حدث مع العراق في حالته. وقد اعترف بلير بأنه لم يبذل ما يكفي من الجهد في هذا الصدد خلال فترة حكمه، مما جعل تجربته عرضة لتفسيرات الآخرين الذين لم يعرفوه شخصياً، ومن المحتمل أنهم لن يلتقوا به أبداً.

تُظهر صورة بلير، من خلال رؤيته للقيادة، تقاربًا مع شخصية “أمير ميكافيللي”، مما يعكس منهجية الفصل المدروس بين الأخلاق والبراغماتية في إدارة شؤون الدولة، كما ورد في كتاب نيكولو ميكافيللي الشهير. بالنسبة لبلير، ما يُعلنه القائد خلال الحملة الانتخابية لا يعكس بالضرورة خطته الفعلية في الحكم. فقد يسعى لتحقيق مصلحة عامة قد لا تلقى قبولًا شعبيًا من الناخبين، كما يمكن للقائد أن يُظهر تعاطفه العلني مع القيم الاشتراكية النبيلة، بينما يعمل في الواقع على تنفيذ ما يخدم مصالح القلة من النخبة.

Loading

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Show Buttons
Hide Buttons
Translate »